كتبت باولا عطية في “نداء الوطن”:
غيّرت الثورة الرقمية وجه العالم، لتحدِث “صدمة إيجابية” في مختلف القطاعات الاقتصادية بدءاً من قطاع الخدمات وقطاع التعليم وصولاً إلى قطاعي الاستشفاء والتجارة. حتى أنها دخلت القطاع الزراعي لتصبح التكنولوجيات الجديدة ركيزة لتطوير هذا القطاع وضمان استمراريته. أمّا دول العالم اليوم فأصبحت تصبّ جهودها وتستثمر أموالها في قطاع المعلومات ليتحوّل الصراع بين الدول من سباق تسلّح إلى تسابق على موقع الريادة في مجال التكنولوجيا.
من أبرز الصراعات التي نشهدها اليوم، صراع داتا المعلومات واكتساح الاسواق التجارية بين عمالقة الهواتف المحمولة، آبل الأميركية المتعددة الجنسيات (قيمتها 1.8 تريليون دولار) وهواوي الصينية (بقيمة سوقية تخطت الـ36 مليار دولار في أقلّ من عام) وشركة سامسونغ الكورية الجنوبية (بقيمة سوقية بلغت 182 مليار دولار).
حروب الجيل السادس أصبحت تكنولوجية
بدأت أولى شرارات الحرب بين واشنطن وبكين بالاشتعال بعد إقرار مجلس الشيوخ الأميركي الشهر الماضي، مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات بمليارات الدولارات للعلوم والتكنولوجيا، بهدف مواجهة السيطرة الصينية الكاسحة في هذا المجال. وآخر فضائح صراعات السيطرة والتنافس بين الدول في قطاع التكنولوجيا ما كشفته تقارير صحافية تداولتها صحف “واشنطن بوست” و”غارديان” و”لوموند” عن برنامج “بيغاسوس” الذي طورته مجموعة “إن.إس.أو” الإسرائيلية، والذي استخدم للتجسس على صحافيين وناشطين حول العالم، إلى جانب رؤساء دول ودبلوماسيين وأفراد عائلات ملكية في العديد من الدول العربية. إذاً، نحن أمام صراع سيطرة من نوع جديد، حيث ترتكز حروب الجيل السادس على أمن المعلومات وجمع ومعالجة وتخزين البيانات وتداولها والتفاعل معها عبر الشبكة العنكبوتية، لا بل التجسس أيضاً على شخصيات سياسية وأخرى مؤثرة في الرأي العام.
بين لبنان واسرائيل… لا مجال للمقارنة
أين موقع لبنان من خريطة العالم التكنولوجية؟ وهل تجوز المقارنة بينه وبين اسرائيل؟ وكيف بإمكان لبنان مجاراة غيره من الدول العربية واعطائه فرصة المنافسة مع نظرائه من الدول في مجال التكنولوجيا؟
لا شكّ في أنّ التطور التكنولوجي الذي حصل في العالم أدخل لبنان عالم التحول الرقمي في معظم المجالات الرئيسية كالاتصالات والأمن والمواصلات والخدمات المصرفية والطبّ والتجارة، إلاّ أنّ حضور لبنان في هذا المجال لا يزال خجولاً، خصوصاً إذا ما قارناه مع العدو الإسرائيلي. حيث كشف نائب الرئيس الأول لشؤون البحث والتطوير في شركة إنتاليو (Intalio) وخبير التحول الرقمي رامز القرا في حديث لصحيفة “نداء الوطن” أنّ “اسرائيل استطاعت أن تصبح “startup nation” أي دولة للشركات الناشئة، بعد أن عملت طيلة السنوات الأخيرة على تأمين التسهيلات للشركات الناشئة بدأ من البنى التحتية، وصولاً إلى جذب الاستثمارات الخارجية لتوظيف الأموال في الشركات الناشئة والتي في معظمها شركات تكنولوجية.هذا وتحتل إسرائيل المرتبة الثانية عالمياً بعد كوريا في صناعة التكنولوجيا العالية والفائقة التطور”. ويلفت القرا إلى أنّ “ما قيل عن شركة NSO الإسرائيلية التي تعمل في برمجيات التجسس ليس جديداً، والسؤال ليس حول التقنيات التي استخدمتها الشركات الاسرائلية للتجسس، بل كيف استطاعت اسرائيل أن تصبح مركز “tech hub ” أي مركز تكنولوجي أو مركز جذب للشركات التكنولوجية من حول العالم؟ ما دفع بدول أخرى أو أصحاب نفوذ للدفع لهذه الشركات بهدف التجسس على صحافيين أو مسؤولين او حتى شركات أخرى”.
ويشرح أنّ “اسرائيل تصدّر منتجات الكترونية للأمن السيبراني (ممارسات الحماية والدفاع على الالكترونيات) بقيمة 6.5 مليارات دولار سنويا، كما صدّرت ما يقارب الـ 37 مليار دولار خدمات تقنية في عام 2020، ما سمح لها بجذب استثمارات لشركاتها الناشئة بقيمة 10 مليارات دولار، وتملك اسرائيل أكثر من 5 آلاف active startup، وأكثر من مئة مركز للتطوير والابحاث لشركات مثل فايسبوك غوغل وأمازون، في الوقت الذي تشجع الدولة اللبنانية الدول العربية والاوروبية على الاستثمار في سندات خزينتها ما يزيد العجز عجزا”. وفي مقارنة بسيطة يشير خبير التحوّل الرقمي إلى أنّ “العقلية الاسرائيلية مستعدة للمجازفة اقتصاديا بعكس العقلية اللبنانية التي اعتمدت على الاستثمار الآمن في المصارف بانتظار الفوائد المرتفعة، كما تصرف اسرائيل 5% من ناتجها القومي على الأبحاث والتطوير فيما تصرف أميركا 2.8 واليابان 3.3”.
هل بإمكان لبنان أن يصبح “تيك هوب”؟
يتقدم لبنان على اسرائيل في جودة تعليم الرياضيات والعلوم ويحتل المركز الرابع عالمياً، بحسب القرا، الذي يكشف أنّ “في لبنان حوالى الـ 30 ألف محترف يعملون في صناعة الانظمة والبرامج الإلكترونية، ومعظمهم يجيدون اللغتين الانكليزية والعربية على الاقل وفي بعض الاحيان اللغة الفرنسية. وبإمكانهم العمل بسهولة في مجال الـ outsourcing (وهو أن تستعين شركات خارجية بخدماتهم عبر العمل عن بعد) وبالتالي سيدخلون إلى لبنان ما يقارب المليارين دولار سنويا”.
ويضيف القرا: “يشكّل اقتصاد المعرفة عنصراً اقتصادياً واعداً في لبنان مع نمو سنوي يتراوح بين الـ 7 و9%، و يضمّ لبنان أكثر من 800 شركة ناشئة في قطاع التكنولوجيا والمعلومات، ما يؤثر في الناتج المحلي بشكل كبير، علماً أن صادرات هذا القطاع شكّلت نحو 34.8% من قيمة الناتج المحلي اللبناني في عام 2013”. وإلى جانب الزيادة في أعداد الشركات الناشئة، يقول رامز القرا “ارتفعت أيضاً المبالغ المخصصة للاستثمارات من 2001 إلى 2017، حيث بلغت قيمة الاستثمارات في الشركات الناشئة العاملة في قطاع التكنولوجيا المالية في المنطقة أكثر من 200 مليون دولار أميركي، لتحتل الشركات اللبنانية المرتبة الثالثة إقليمياً لناحية قيمة الاستثمارات، وفقاً لبحوث معمّقة أجرتها “عرب نت”.
العوائق كثيرة
وعن العوائق التي تحدّ من تطوّر القطاع يذكر القرا “السياسات التي انتهجتها الدولة لأكثر من 30 عاماً، والتي صبّت خلالها دعمها الكامل للقطاع المصرفي وقطاع الخدمات مهمشة القطاع التكنولوجي الذي عانى من غياب تام للخطط والرؤى الاقتصادية والتنموية”. أمّا سياسات المصارف بحسب القرا، فساهمت بتراجع الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا، حيث شجعت أصحاب رؤوس الأموال على إيداع أموالهم في المصارف مقابل فوائد عالية بدل توظيفها في استثمارات في قطاع التكنولوجيا أو في شركات ناشئة وتحريك العجلة الاقتصادية. هذا وتفضّل الذهنية اللبنانية الاقتصادية توظيف الأموال في استثمارات سريعة على المجازفة. من جهة أخرى، “يعاني المستثمرون من صعوبة في تأسيس شركات في لبنان بسبب الاجراءات الطويلة والمعقدة الى جانب المعاملات الادارية، عدا عن الرشاوي التي يفترض دفعها، والشروط القاسية التي تفرض وجود محامٍ وايداع مبلغ معين من المال لدى المصارف”، بحسب القرا. “أمّا اليوم ومع اشتداد الازمة الاقتصادية أصبح تأسيس شركة في لبنان مستحيلاً بسبب رفض المصارف فتح حسابات جديدة ولو بالليرة اللبنانية”. هذا، ولا تملك الدولة اللبنانية ميزانية مخصصة للابحاث والتطوير والدراسات، وتضع قيوداً على بعض الاختصاصات كالهندسة مثلاً. وفي الوقت الذي تدعم فيه دول أخرى هذه الاختصاصات وتستثمر في العقول، يعاني لبنان من هجرة أدمغة. ما يؤدي إلى مساهمة الادمغة اللبنانية في تحريك العجلة الاقتصادية في الخارج”.
ما الحلّ؟
كيف تستطيع الدولة اللبنانية مجاراة دول المنطقة في هذا المجال؟ يجيب القرا:
أولاً، على الدولة اللبنانية تشجيع الشراكات بين الجامعات اللبنانية والشركات الخاصة مقابل تخفيضات ضريبية لهذه الأخيرة. حيث أن معظم الاختراعات التقنية تبدأ كأبحاث في الجامعات.
ثانياً، من خلال تنشيط وتفعيل عمل مؤسسات كـ IDAL للسماح للشركات الناشئة بجذب الاستثمارات، مع وضع سياسات تحفيزية لهذه الشركات عبر الغاء الضرائب وتأمين تسهيلات مصرفية لهم.
ثالثاً، قوننة العمل عن بعد مع شركات أجنبية بدون الحاجة إلى إنشاء شركات، تماماً كما فعلت أوكرانيا.
رابعاً، إنشاء المعهد الوطني لتدريب التقنيين على صناعة وهندسة البرامج تماماً كما فعلت مصر.
خامساً، إنشاء مكاتب للايجار اليومي والعمل بها بكلفة منخفضة، حيث تكون الكهرباء والإنترنت مؤمنتان.
سادساً، تحسين الوضع الأمني في لبنان، وإعادة ثقة المجتمع الدولي والشركات في النظام المصرفي والاقتصادي والسياسي اللبناني.
سابعاً، توجيه الشباب الى اختصاصات جديدة حسب احتياجات سوق العمل.
تاسعاً، تخصيص جزء من ميزانية الدولة للدراسات والأبحاث في مجال التكنولوجيا والعلوم.
عاشراً، تطوير المناهج التعليمية وإدخال المواد العلمية والإلكترونية وإعطاؤها حيزاً كبيراً من الأهمية، حيث أنّ مصطلح “محو الأمية” في هذا العصر أصبح ملازماً لـ “محو الأمية الحاسوبية”.