جاء في “اللواء”:
هل ثمة فرصة للخروج من حالة الاختناق التي أصابت المجتمع اللبناني، الذي دخل بأزمة غير مسبوقة منذ ما قبل 17 ت1 (2019) لحظة انفجار الموقف في البلاد، بفضل عوامل عدّة من بينها السياسات الرعناء، التي عملت بها الطبقة السياسية، المذهبية والطائفية، طوال حقبة ما بعد الطائف، واشتد أوارها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟
السؤال مشروع في توقيته، وفي الظروف المحيطة به، لمناسبة الإتجاه الحاسم لتكليف رئيس تكتل الوسط نجيب ميقاتي تأليف حكومة جديدة، بالتزامن مع اقتراب موعد الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت في 4 آب المقبل، وسط ضغوطات، لا أدري مدى جديتها، في رؤية حكومة للبنان بل موعد مأساة بيروت، تتمكن من المساهمة في مؤتمر المساعدات الدولية الذي تنظمه إدارة الرئيس ايمانويل ماكرون.
لكن السؤال الذي به استهللت المقال، يحمل في طيّاته عناصر التشكيك في هذه الإمكانية وان كان: ما أضيق العيش لو فسحة الأمل!
ما هو سبب التشكيك؟
من ناحية المبدأ، ثمة مسار من محاولات التعامل مع عهد الرئيس ميشال عون، لا يوحي إلَّا بالخوف. فتجربة الفريق الذي وصل إلى السلطة في غفلة من الزمان، وفي ظل تقلبات إقليمية ودولية بالغة الخطورة، جعلت من الصعب على بلد مثل لبنان، ان يبقى واحة سلام.. فالتحقت بيروت بمدن كبرى في الإقليم، كلها تدور في بلدان أو عواصم محور ارتضى تسمية له «محور المقاومة» أو محور الممانعة، وراح يلول يومياً، حديث الانتصارات والصمودات والبطولات، في وقت تدل الوقائع على أن عواصم مثل دمشق، وبغداد، وطهران، وصنعاء وغيرها، تمر بأشد مراحل الأزمات في تاريخها الحديث، على خلفية حرب المحاور، والصراع على مناطق النفوذ الجيوبولتيكي والجيونفطي، فضلاً عن الغاز ومصادر الثروة الأخرى.
قدّر للبنان ان ينزلق إلى «محور المواجهة» بحصر العبء في مرحلة سابقة، بضربات واعتداءات إسرائيلية أو إرهابية، أو مالية ضد فئة أو جغرافيا بحد ذاتها، وكان يمكن تجاوز المشكلة ما دامت الضربات لا تطال الكل، وتنحصر بالجزئي، أي فريق حزب الله وجمهوره أو ما يسمى في بعض الأندية «البيئة الحاضنة».
تغيّر المشهد، انكفأ فريق 14 آذار الموالي للحلف الغربي، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ودول الاعتدال العربي، وقدّر لحلف «تفاهم مار مخايل» ان يتسلم زمام السلطة، بدءاً من «جبل المقاومة» في بعبدا، والتسمية للأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله.. إلى قائد الأكثرية النيابية المسيحية، صاحب بدعة الأقوى في طائفته جبران باسيل، الذي ينتقل من الوزارة إلى النيابة إلى زعامة التيار الوطني الحر، وما حلَّ في أرض إلَّا واورث أهلها الخراب والعذاب، بدءاً من تياره إلى جمهوره، فإلى الجمهورية ككل.. التي لم تعد قوية، على الرغم من أن غريم باسيل سمير جعجع، طاب له ان يُطلق على كتلة «القوات النيابية» اسم كتلة «الجمهورية القوية».
أعلنت الحرب الكبرى على البلد الصغير المدمى، والمصاب بشلل حكم، أقل ما يمكن ان يوصف به أنه فاسد، وبليد، وفاشل، وصايع، وكل أشكال الأوصاف التي يمكن أن تطلق على حاكم مهووس، ومهبول، وعديم الخبرة والمسؤولية.
دلت تجربة مصطفى أديب على أن فريق بعبدا، من الصعب التعامل معه، ليس لأنه ادرى بإدارة الدولة، بل لأن نظرته، بأقل احتمال، للأمور بالغة الخطل والعطل، فلا زينة مصلحة وطنية، ولا هاجس، سوى الأمر لي..
ذهب أديب، وذهبت معه محاولة إنشاء حكومة، تحل محل حكومة حسان دياب، الذي لبس الكفوف البيضاء، ودعا إلى الجهاد في سبيل ان تكون له فرصة الانتساب إلى نادي رؤساء الحكومات، فساهم في اغراق البلد، وهو يتفرج مع فريقه، الذي يمضي بعضه في «بطولات وهمية» وبعضه الآخر في انكفاءات مريبة، ان كان يدري أو لا يدري..
صمد سعد الحريري، الذي تُوجه إليه انتقادات كبيرة في السر والعلن في وجه منْ أراد له «رفع الراية» في الملعب الممتد من «ميرنا شالوحي» إلى محيط القصر الجمهوري.. لكنه بعد معاندة توزعت بين العناد والابتعاد، رمى الراية بوجه ميشال عون، ولم يصافح جبران باسيل، أو يعترف به.. على طريقة: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف..
عاد الحريري إلى ساحته، بخفي حنين، خالي الوفاض إلَّا من تسجيل خطوة كبرى، من وجهة نظره، أنه لن يُشكّل حكومة ميشال عون أو يرأسها.
كان من الصعب بمكان على فريق الإسلام السياسي السنّي ان يقبل بترك البلد فالتاً لمصيره. فلا بدّ من حكومة تستعيد أو تطمح لاستعادة مجد الطائف التليد.. أو على الأقل، القدرة على تقاسم ما أمكن من السلطة..
دفع نادي رؤساء الحكومات، الذي لن يدخله الدكتور دياب، بنجيب ميقاتي إلى المهمة الصعبة، إن لم أقل المستحيلة، فاندفع الرجل يزين اخماسه بأسداسه، يقدم أو يحجم.. فحسم الخيار، للإقدام وليس للإحجام، وذهب «أبو ماهر» الى إجراء ما يلزم من استشارات تسبق الاستشارات الملزمة وغير الملزمة، مستفيداً من تجربته وتجربة الآخرين، ومن وسطية، جعلت منه رجلاً يقدر على مسك العصا من الوسط..
ومع ذلك، لم يرق الأمر، لفتى الجمهورية، الأغر باسيل، فجاهر برفض ترؤس ميقاتي حكومة، تتحدث عن مواصفات طالب بها، استناداً إلى مبادرة ماكرون في 1 أيلول 2020: حكومة مهمة، من تكنوقراط، لا ثلث معطلاً فيها، لأي طرف، تتولى إجراء الإصلاحات المطلوبة على طريق دخول لبنان مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي يتوجس منه حزب الله شرّ توجس..
والمواصفات إياها، بقي الحريري لأشهر تسعة خلت، يكافح من أجلها، حتى جاءت الضربة القاضية، قبل أسبوعين في اجتماع دام عشرين دقيقة في بعبدا، وانتهى باعتذار الرجل..
أمام ميقاتي الصورة الكاملة، المعروفة وغير المعروفة عمّا دار في كواليس الأشهر الـ11 الماضية، منذ ان استقال دياب، تحت وطأة هول انفجار 4 آب في مرفأ بيروت.. حيث بات من المدعى عليهم في القضية إلى جانب وزراء ونواب وأمنيين كبار وصغار امام المحقق العدلي في القضية..
ليس من السهل على ميقاتي ان ينهزم قبل خوض التجربة.. تسميته بمرسوم رئيساً لتأليف الحكومة، وليس بإمكان باسيل ان ينهزم أمام ميقاتي، أو فريق نادي رؤساء الحكومات، الذي يمثل الآن، ما يمكن وصفه بالمرجعية السياسية، التي تضفي على شخصية رئيس الحكومة شرعية ميثاقية، إسلامية، باعتباره يمثل السنَّة في إدارة الدولة.
إذا، كانت السياسة فن اللعب بالممكن والمستحيل، بات من الثابت، ان منازلة متوقعة بدءاً من اليوم، ستجري بين باسيل أكبر عتاة العرقلة المارونية لاستعادة بناء الدولة، وفقا لأنظمة دستور الطائف وأحكامه، وميقاتي الذي انخرط في بنية التركيبة السياسية، بعد الطائف، ليصبح واحداً من أي منها مع التغيرات الكبرى التي عصفت بهيكلية القيادات السنيَّة في ترؤس الحكومات..
نأى الرئيس عون بنفسه، وهو في الأشهر الأخيرة من عهده، وقالها علناً: مرحباً بميقاتي ولكن..
لا يعني هذا الكلام شيئاً لباسيل، الذي يظن في نفسه انه اللاعب الأوّل والأخير في صناعة القرارات والخيارات، مستفيداً من توافر إعلام معه، يحوّل الأسود أبيض، وبالعكس..
للمسألة أبعاد أخرى، بدءاً من حماس تيّار باسيل إلى ترشيح السفير نواف سلام، المرشح الدولي، بحكم موقعه ودوره في الخارج، وميقاتي مرشّح أكثرية 8 آذار بالتحالف مع تيّار «المستقبل».
ذات مرّة، وصف الحريري حكومة ميقاتي بحكومة حزب الله.. الان لا هي حكومة الحريري، ولا حكومة ميشال عون..
فأي حكومة سيُشكل السياسي الطرابلسي، المتجدّد، صاحب العلاقات والارتباطات والمصالح في الداخل والخارج؟
من هذه اللوحة، ومع متغيرات السياسات في البيت الأبيض من تعويم طالبان، إلى تعويم داعش، تبقى لعبة الانتظار قائمة من يوم استشارات الاشتباك إلى ما بعده؟!