كتب إبراهيم أسامة العرب في “اللواء”:
ما تزال فرنسا تتابع الوضع اللبناني عن كثب، وتسعى إلى أن يصار إلى تشكيل حكومة جديدة بإمكانها تنفيذ الإصلاحات المطلوبة التي حدّدت في مؤتمر سيدر؛ وما تزال السفيرة الأميركية دوروثي شيا أيضاً، تحثّ على تشكيل حكومة جديدة تلبّي متطلبات الشعب اللبناني، وتجري إصلاحات سريعة وجذرية، وتعمل بصورة جدّية على مكافحة الفساد، كسبيل وحيد لفتح الأبواب لتدفق المساعدات الخارجية الى لبنان؛ الأمر الذي يثير التساؤل عمّا إذا كان رئيس الجمهورية سيتراجع عن تمسّكه بالثلث المعطّل في الحكومة الجديدة، وعمّا إذا كان الثنائي الشيعي سيتوقفان عن مطالبتهما بتولّي وزير شيعي لحقيبة وزارة المالية، لكي لا يكرّر الرئيس نجيب ميقاتي تجربتي السفير مصطفى أديب والرئيس سعد الحريري، اللذان أبديا اعتذارهما عن التكليف بعدما عجزا عن الاتفاق مع رئيس الجمهورية على الصيغة الحكومية.
إنّ المصادر السياسية تفيد حتى الآن أنّ الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي لا يقبل بأقل من الثوابت التي وقف عندها الحريري وأيّده بها، أي لا ثلث معطل بالحكومة لأحد وأن يتم اعتماد مبدأ الثلاث ثمانيات، بحيث يكون للرئيس المكلّف حق تسمية وزيرين مسيحيين غير الوزراء المسيحيين السبعة من أصل الثمانية الذين يكونون من حصة رئيس الجمهورية، مع التوزيع الذي جاء في تشكيلة الحريري الأخيرة للحقائب السيادية الأربع أي المالية للشيعة، الداخلية للسنّة، والخارجية للموارنة والدفاع للروم الأرثوذكس. ويرجع تمسّك الرئيس ميقاتي بهذه الثوابت لأنها تنسجم مع مواصفات الحكومة التي شدّد عليها الرئيس إيمانويل ماكرون في مبادرته الفرنسية، والتي هي ذات الحكومة التي سعى السفير مصطفى أديب ومن بعده الرئيس سعد الحريري لتشكيلها، أي حكومة اختصاصيين، لا ثلث معطل فيها لأي كان، ولا غلبة فيها لطرف على الآخر؛ وهذا ما أكدته سفيرتي أميركا وفرنسا في الرسالة المشتركة التي بعثها وزيري خارجية بلادهما إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، في ظل حرصهما على ألا يبقى لبنان ورقة بيد الإيراني في مفاوضات فيينا.
ومما لا شك فيه أن الرئيس ميقاتي لا يريد أن يكون كبش محرقة، أو أن يستخدم في سياقات سياسية معينة، هدفها تصفية الحسابات أو الدخول في نزاعات بينية على القواعد السياسية القائمة لبنانياً والمعمول بها، ولذلك فإنه أبدى عزمه على الاعتذار عن التكليف بعد حوالي شهر من الآن حال عجز عن التفاهم مع رئيس الجمهورية حول الصيغة الحكومية الجديدة؛ لا سيما أنّ استحقاق التأليف هذه المرّة شديد الحساسية، فالمعلومات تفيد أنّ الضغوط الإقليمية والدولية ستزداد في هذه المرحلة، وأنّ هنالك رابطا بين زيارة وفد مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، وجرعة العقوبات الأميركية-الفرنسية التي يجري إعدادها بحق عدد من الشخصيات اللبنانية الرفيعة، التي تعطّل التأليف؛ مما يوجب تجنّب مقاربة استحقاق التأليف بخلفية تستفزّ المجتمع الدولي، لأن ذلك معناه القضاء على اقتصاد البلد.
ولذلك فإننا نأمل أن يصار إلى تسهيل مهمّة الرئيس ميقاتي وتمكينه من تشكيل حكومة جديدة باستطاعتها إنقاذ لبنان، وإخراجه من نفق الأزمات المتوالدة التي أثقلت كاهل المواطن؛ كما نأمل بأن تنتهي عمليات التسويف والمماطلة والتعطيل ووضع الشروط والمعايير المتصادمة، ذلك أن العثور على شخصية بديلة للرئيس ميقاتي لن يكون سهلاً هذه المرة، ما لم يكن الأمر معناه تشكيل حكومة من لون واحد تكراراً لتجربة الرئيس حسان دياب والرئيس نجيب ميقاتي نفسه في عام 2011، التي أثبتت فشلها باعتراف جميع الجهات، خصوصاً تلك التي دعمتها. كما أنّ حساسية الوضع الداخلي توجب مراعاة الواقع السنّي الذي يرفض اختيار شخصية لا تحظى بموافقة دار الفتوى ونادي رؤساء الوزراء السابقين والمملكة العربية السعودية.
أما القول بغير ذلك، فإنه سيبقي لبنان أمام حالة متمادية ومستشرية من الفراغات والانهيارات، وسيؤدي إلى إنهاء عهد الرئيس عون مع حكومة تصريف أعمال، واجتماعات دورية لمجلس الدفاع الأعلى، الذي تحوّل وللأسف إلى شبه حكومة، وصار أساساً لإدارة الدولة؛ ناهيك عن استمرار انسداد الأفق السياسي واستشراء إفقار اللبنانيين وتدهور الوضع الاجتماعي كلما ارتفع سعر صرف الدولار لليرة.
وأخيراً، فإننا نشدّد على وجوب الالتزام بمعيار أساسي وحيد للتأليف، ألا وهو الوصول إلى حكومة توحي بالثقة للبنانيين وللمجتمع الدولي، وترتكز في تشكيلها على مندرجات المبادرة الفرنسية؛ رافضين كل المحاولات الساعية لحصر وظيفة الحكومة الجديدة بالانتخابات النيابية، لأن ذلك معناه قراراً مسبقاً بتطويل أمد الازمة وتأجيل علاجاتها، ومفاقمة التدهور والآثار السلبيّة على اللبنانيين.