لم يكن بعد اكتملَ نصابُ تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيلَ الحكومة الموعودة منذ 11 شهراً، حين أُغرقت بيروت بـ «شيفرات» ومعادلاتٌ بدا في تفكيكها الجواب اليقين حيال هل ينجح الرئيس المكلف الجديد حيث لم يُتح لسلفيْه الرئيس سعد الحريري وقبْله السفير مصطفى أديب أن يستولدا تشكيلةً أُريد لها أن تتولى دور «مانعة الصواعق» بعد تَدحْرج الانهيار المالي فإذ بها تحوّلتْ «جاذبة تعقيدات» أوّلها داخلي وآخِرها إقليمي.
فمع التكليف المُريح نسبياً لميقاتي (سماه 72 نائباً من أصل 118 يتألف منهم البرلمان حالياً مقابل امتناع 42 عن التسمية وصوت واحد للسفير السابق نواف سلام وغياب 3 نواب) في ختام يوم الاستشارات النيابية المُلْزمة التي أجراها رئيس الجمهورية ميشال عون في القصر الجمهوري أمس، ساد الوسط السياسي غموضٌ كبيرٌ حيال ما بعد طي صفحة اعتذار الحريري وتسليمه، من ضمن قرار واحد لرؤساء الحكومة السابقين، «العصا» لميقاتي لإكمال «سباق البدَل» الذي بدأ في سبتمبر 2020.
وعلا صوت الأسئلة الكبرى فوق كل الأصوات التي نالها ميقاتي (سبق أن ترأس حكومتين العام 2005 و2013)، الذي خرج من الاستشارات بدعمٍ كاملٍ من المكوّن الشيعي بجناحيْه «حزب الله» وحركة «أمل» (رئيس البرلمان نبيه بري) والدرزي (حزب وليد جنبلاط) وبطبيعة الحال السنّي الذي يمثّله، فيما جاء تكليفُه «ناقِصاً» أصوات الكتلتين المسيحيتين الوازنتين «التيار الوطني الحر» (حزب عون) و«القوات اللبنانية» كلٌّ لاعتباراته، ليعيد هذا الأمر طرْحَ وجودِ «شبهةٍ» معنوية حيال ميثاقية التسمية، سبق أن شكّلت (وتحديداً مع امتناع التيار الحر عن تسمية الحريري) باباً لـ «الرياح» التي عَصَفَتْ بمهمة زعيم «تيار المستقبل».
… هل ستتلقّف الأطرافُ المعنيةُ «الفرصةَ الأخيرةَ» لتشكيل حكومةٍ تخفف صدمة الارتطام الكبير الذي بدأت طلائعه؟ أم أن ما كُتب قد كُتب على صعيد أخذ البلاد رهينة طموحاتٍ وحساباتٍ ذات صلة باستحقاقات 2022 الانتخابية كما بملفاتٍ شائكة في المنطقة (النووي الإيراني) ولو حتى آخِر رَمَق من واقع مالي – اقتصادي صار حُطاماً باتت معه حياة اللبنانيين جحيماً؟
سؤالان رئيسيان طبعا مشهد التكليف وما بعد التأليف وتفرّعت منهما علامات استفهام أخرى أبرزها على شكل معادلةٍ عنوانها «هل يصنع تشدُّدان حكومة؟»، وهل ثمة ما يدعو للاعتقاد أن الخلفيات غير الخفية التي حكمت الأشهر التسعة التي سعى خلالها الحريري للتأليف والحواجز التي رُفعت بوجهه من فريق رئيس الجمهورية ستسقط لمجرّد تحقيق «انتصار» إزاحة زعيم «المستقبل»؟ وهل دقت الساعة إقليمياً بالنسبة الى «حزب الله» للدفع نحو الإفراج عن حكومةٍ لا يمكن تَصَوُّر أن يقبل بأن تكون خارجة عن أي «تحكم وسيطرة» سياسية عليها، هي التي تُعتبر انعكاساً للموازين الداخلية بأبعادها الخارجية وتطلّ على استحقاقيْ الانتخابات النيابية والرئاسية؟
فرغم أن تَراجُع «التيار الحر» عن تسمية السفير السابق نواف سلام والاكتفاء بعدم اختيار ميقاتي اعتُبر في سياق تفادي تسليم أوراق سلفاً إلى الرئيس المكلف والتعاطي على طريقة «الخطوة بالخطوة» و«الايجابية بالايجابية»، وهو ما عُطِف على ترْك عون هذه المرة الباب موارباً بوجه ميقاتي على عكس ما فعله عشية تسمية الحريري، إلا أن هذا الأمر لا يجعل أوساطاً سياسية تذهب الى الاعتقاد أن رئيس الجمهورية وفريقه تخليا عن كل «البنيان» الذي راكماه وتحصّنا خلفه في معركةٍ خاضاها بأبعاد سُلطوية، وفق خصومهما، ولكنهما أُعطياها عنوان الدفاع عن الصلاحيات الدستورية والحقوق الطائفية والميثاقية.
وبعدما كان «التيار الحر» أشاع مناخاتٍ اعتُبرت «عدائية» تجاه ميقاتي وعبّر عنها نواب أو قياديون فيه وصولاً الى حديث قريبين منه عن «نيّات خبيثة ستتكشّف تباعاً، وراء تسمية ميقاتي والإتيان به ليُكمل ما بدأه الحريري»، فإن كلام رئيسه جبران باسيل من قصر بعبدا عن حيثيات عدم تسمية ميقاتي «لأن لدينا تجربة سابقة غير مشجعة» وعدم الاقتناع بتوافق مثل هذه التسمية مع تطلعات الإصلاح، معطوفاً على تأكيد مصادر التيار أن موضوع إعطاء الثقة لحكومة ميقاتي غير محسوم ومرهون بالتأليف، اعتُبر مؤشراً إلى أن الأجواءَ السلبيةَ من فريق عون لا بد أن تلفح مسارَ التشكيل رغم اللقاء الذي عقده الرئيس المكلف مع باسيل يوم السبت والذي حرص الجانبان على نفي أن يكون تَداوَلَ موضوعَ الحقائب في الحكومة العتيدة بعد التقارير عن مطالبة «التيار الحر» بالداخلية.
وفي حين اعتُبرت التسريباتُ عن أن التيار لن يشارك في الحكومة إشارةً يُخشى أن تكون معها عمليةُ التأليفِ ستنطلق من سقف متشدد أي من حيث انتهتْ «المطاحنةُ» مع الحريري التي تَمَحْوَرَتْ حول موضوع الثقة والثلث المعطّل ورفْض عون تسمية زعيم «المستقبل» وزيريْن مسيحييْن، فإن السقف العالي الذي رَسَمه رؤساء الحكومة السابقون بالتكافل والتضامن مع ميقاتي في بيان إعلان دعم ترشيحه (عصر الأحد) حَمَل بدوره إشارات تشدُّد عكست أن الرئيس المكلف الجديد يكمل ما بدأه الحريري، وأن مسار التأليف ستحكمه مبادئ وقواعد سياسية ودستورية بينها تشكيل «حكومة من مستقلّين غير حزبيين من أصحاب الاختصاص بعيداً عن تسلّط الأحزاب السياسية تحت ذرائع أثلاث معطلة أو غيرها» و«حكومة تلتزم باتفاق الطائف والدستور بعيداً عن البدع والانتهاكات التي أصبحت تخرقه».
وإذ عَكس كلام الحريري نفسه من قصر بعبدا هذا المنحى بإعلانه «سميت الرئيس ميقاتي على أساس أن يتابع المسار الدستوري الذي اتفقنا عليه في بيت الوسط، وان شاء الله يتم تكليفه وتشكيل الحكومة بأسرع وقت»، فإن الأوساط السياسية استوقفها الحذر الذي طبع موقف «حزب الله» من مجمل الملف الحكومي وهو ما عبّر عنه كلام رئيس كتله نوابه محمد رعد الذي قال «اليوم، مع ظهور مؤشرات تلمّح لإمكان تشكيل حكومة – ما منعرف، بتظبط او ما بتظبط – فإن من الطبيعي جداً أن تؤيد الكتلة وتشجّع وتعزّز هذه الامكانية. ومن هنا جاءت اليوم تسميتنا لدولة الرئيس ميقاتي لتعكس جدية التزامنا بأولوية تشكيل حكومة، ولنتقصّد أيضاً إعطاء جرعة إضافية لتسهيل مهمة التأليف».
وفيما ستكون الأيامُ المقبلة كفيلة بتحديد اتجاهات الريح الحكومية، مع بدء ميقاتي اليوم الاستشارات مع الكتل البرلمانية حول التأليف وسط إشارة لافتة أطلقها بقوله بعد صدور مرسوم تكليفه «أنا مطمئن ولو لم تكن لدي الضمانات الخارجية المطلوبة وقناعة بأنه حان الوقت ليكون أحد في طليعة العاملين على الحد من النار، لَما أقدمتُ على هذه الخطوة»، فإن أوساطاً واسعة الاطلاع على دراية بخفايا التأليف لم تُخْفِ عبر «الراي» أن المهمة صعبة ولن تكون سهلة في ظل استشعارٍ بأن غالبية مَن سموا ميقاتي يريدون إكمال المعركة التي بدأت مع عون، وأن رئيس الجمهورية من خلال عنوان التدقيق الجنائي، انتقائياً وربما انتقامياً، الذي يعتبر أنه أولوية دولية يعتقد أن بإمكانه تطويع الآخرين انطلاقاً من حسابات تتصل بموقع باسيل في المعادلة الداخلية.
وبأي حال ومع تأكيد بري بعد اللقاء الثلاثي الذي جمعه بعون وميقاتي في بعبدا أن «العبرة في التأليف»، فإن مختلف الأجواء تشير إلى أن الرئيس المكلف لا يعطي وقتاً مفتوحاً للتشكيل وأنه لن ينجرّ إلى مناورات ومماحكات وأنه متى شعر بمحاولات لاستدراجه للعبة إضاعة وقت جديد لن يتردد في الاعتذار، وهو أكد فور تكليفه «أتطلع الى ثقة الناس لأنه لوحدي لا أملك عصا سحرية ولا أستطيع أن أصنع العجائب. نحن في حالة صعبة جداً والمهمة صعبة ولكنها تنجح اذا تضافرت جهودنا جميعاً بعيداً عن المناكفات والمهاترات والاتهامات التي لا طائل منها، ومَن لديه أي حل فليتفضل».
وأكد «نعم نحن كنا على شفير الانهيار، وكنا أمام حريق يمتد يومياً ويكاد يصل الى منازل الكل، لذلك أخذت بعد الاتكال على الله قرار الاقدام وأن أحاول وقف تمدد هذا الحريق.
أما إخماد الحريق فيقتضي تعاوننا جميعاً. وأتمنى عدم الرد على ما يقال، والمهم أن نستمر، وانا متأكد أنه بالتعاون مع فخامة الرئيس، وقد تحدثت معه للتو، سنتمكن من تشكيل الحكومة المطلوبة، ومن أولى مهماتها تنفيذ المبادرة الفرنسية والتي هي لمصلحة لبنان والاقتصاد اللبناني وإنهاضه».
وختم: «يبقى أن اقول إنه يحكى الكثير في وسائل الاعلام وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنني أخذت على عاتقي ألّا أردّ، وخير الكلام ما قل ودل».
https://www.alraimedia.com/article/1546644/خارجيات/لبنان-ميقاتي-بدأ-المشوار-الشائك-لتشكيل-حكومته-فهل-تنزع-الأشواك