كتب حنا صالح في “الشرق الاوسط”:
على مدى عام كامل، بعد جريمة تفجير بيروت التي دمّرت المرفأ وأدت إلى انهيار الحكومة، افتُعِلت كل أشكال المواجهات والصراعات بين أطراف المنظومة السياسية المتحكمة؛ ما وفّر من جهة التغطية للطرف الممسك بالقرار، أي «حزب الله» المانع تأليف حكومة جديدة خدمة لأجندة إيرانية، ومن الجهة الأخرى توفرت كل العناصر التي عطلت بقية المرافق العامة فانهارت كل الخدمات العامة خدمة للأجندة إياها!
طال الانهيار كل قطاعات البنية التحتية، خصوصاً الكهرباء والصحة والتعليم، واتسعت المعاناة من شح المياه، وهم حوّلوا بيئة لبنان أبرز ميزاته وعناصر قوته إلى مزبلة. لكن الانهيار الحاد في قيمة الليرة، والارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار، والإفلاسات التي نجمت عن ذلك وضعت اللبنانيين وجهاً لوجه أمام المجاعة بكل ما للكلمة من معنى. لقد طالت الأزمات المعيشية الخانقة، كل الجغرافيا اللبنانية التي وحّدها تردٍ اجتماعي شامل لم يعرفه لبنان في تاريخه، وكانت النتيجة مؤشرات مقلقة أكدتها الجهات الرسمية وتناولت ازدياداً في حجم السرقات، إلى الارتفاع الحاد في مستوى الجريمة واتساع اليأس بين المواطنين. لقد بدا أن الحرمان والإفقار والتجويع والتيئيس نتائج لعملية مبرمجة مخطط لها؛ لأن هناك من أراد الاستثمار في الانهيار، لتسهيل فرض أجندته الهادفة إلى إحكام السيطرة الخارجية، والدليل أن الجهات الممسكة بالقرار لم تتخذ أي تدبير يمكن أن يؤخر الارتطام الكبير!
من تكليف مصطفى أديب إلى اعتذاره بعد أسابيع عن عدم تأليف «حكومة المهمة» التي تحدثت عنها المبادرة الفرنسية، إلى تكليف سعد الحريري الذي اعتذر بعد نحوٍ من 9 أشهر، عانى لبنان من ضغوط مارسها من يريد استنساخ الحكومات السابقة بأكثر وجوهها بشاعة، وكأن البلد لم يعرف لا حراك «17 تشرين» ولا الجائحة ولا جريمة الحرب التي ضربت بيروت في الرابع من آب 2020. لذلك؛ كان الإصرار على حكومة يتحكم بقرارها «حزب الله» والقصر الجمهوري، وبالأخص جبران باسيل الذي يلعب دور الرئيس بالوكالة. ولم يكن بقدرة المكلفين تباعاً أديب أو الحريري الرضوخ لكل مندرجات هذه الأجندة.
والأمر الأكيد أن الموقف المبدئي للقوى التشرينية المتمسكة بقيام حكومة إنقاذٍ مستقلة، أقلق قوى السلطة، فلم يعد سهلاً عليها تمثيل أطراف المنظومة ومنها «حزب الله» وما يمثله من نفوذٍ لطهران داخل مؤسسات الحكم. ورغم أن ميزان القوى غير متبلور، ولم يكن ممكناً وضع هذه الرؤية على طاولة البحث الجاد، فإن هذا الطرح تم تداوله على نطاقٍ واسع، وقد أراد بالعمق استعادة لبنان إلى موقعه، ورفض حالة الارتهان التي زجّت البلد في صراعٍ جيوسياسي خدمة لمشروع الهيمنة الإقليمية الذي تقوده إيران.
اليوم اجتاز نجيب ميقاتي عقبة «التكليف» وهو الآن أمام حاجز «التأليف»، ورغم تفاؤله بالدعم الخارجي والاحتضان الداخلي، ومنه انتقال «حزب الله» إلى تسميته خلافاً لما درج عليه، قد لا يصل إلى المحطة الأخيرة وهي تأليف الحكومة. لأن كل السيناريوهات السابقة مرشحة لأن تطل برأسها وقد يصطدم ميقاتي بالحسابات والمصالح نفسها التي أبعدت أديب والحريري! هذا مع العلم أن هناك أكثر من مؤشر يشي أن «حزب الله» بات مدركاً أن فرصة استمرار انفراده الفعلي بالحكم، كما هو الحال منذ سقوط حكومة الحريري في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، عملية مكلفة جداً، وهو يرى أن تحكمه في الوضع، ولو بالتعاون مع القصر الجمهوري وتياره، حوّل البلد إلى «تيتانيك» قديمة تقترب بسرعة من جبل الجليد.
فور إعلان التكليف برز في تصريحات ميقاتي رهان على الدعم الخارجي، والمقصود تحديداً الفرنسي. صحيح أن باريس لم تتراجع عن مبادرة ماكرون ولا عن منحى الاستثمار في الوضع اللبناني بما يخدم حملة الرئاسيات الفرنسية، لكن لو أمعنا النظر لوجدنا أن جهود باريس حيال لبنان تعمل على تبطيء المجاعة، كي يكون ممكناً للمواطنين الاستمرار في ظل حالة من «ستاتيكو» لم تتمكن باريس من اختراقها، فعدلت من طروحاتها وانحازت إلى «تسوية» جديدة مختلفة، فيها تسليم بالتوافق مع «حزب الله»، ومن خلفه طهران، حيث ينصب الاهتمام الاستثماري الفرنسي فور العودة المتعسرة إلى الاتفاق النووي!
هذا المنحى الفرنسي المكمل للدور الذي أدته باريس وخدم تعويم الطبقة السياسية بعد الرابع من أغسطس، قد لا يستطيع توفير المظلة الخارجية الكافية، فيتعذر تأليف حكومة جديدة، سيما أن كل القوى المحلية الداعمة للرئيس المكلف هي على طرفي نقيض مع الخارج، الذي يريد إطلاق عملية إصلاحية تحاصر الهدر والسطو على المال العام واستعادة واردات الدولة والذهاب إلى تدقيق جنائي واسع. هنا نفتح مزدوجين كي نشير إلى أن تبني «حزب الله» لميقاتي يعود إلى اطمئنانه أن ليس في أجندته خطوات إصلاحية تهدد أخطبوط الاقتصاد الموازي الذي أقامته الدويلة ويتغذى على حساب المال العام!
لقد شكّل تكليف ميقاتي تشكيل حكومة جديدة استمراراً لمسرحية شاهدها الناس مع الحريري. كلفوه لأن التغيير ممنوع، ولأنه ضمانة عدم فتح أي ملف فساد، والحال أن قوى التغيير في لبنان لم تكن تنتظر أي تكليف من خارج الدائرة المتهمة بالارتكابات. لكن الرئيس نجيب ميقاتي هو في النهاية أكثر من استمرارية سياسية لمرحلة ما قبل «17 تشرين»، وعودته إلى الواجهة تثير الأسئلة! هو متهم بارتكابات كثيرة، بدأت بوضع اليد على أموال الهاتف النقال، إلى الاستئثار بحصة كبيرة من القروض الميسرة للإسكان، ويواجه حالياً دعاوى بالإثراء غير المشروع. والأمر الذي يمثل الاستفزاز الأكبر لقوى التغيير، هو أنه على مشارف الذكرى السنوية الأولى لتفجير بيروت، يعرف الجميع أن شحنة الموت دخلت مرفأ بيروت في خريف عام 2013 أيام حكومة «القمصان السود» التي فرضها «حزب الله» وترأسها ميقاتي، واستمرت في السلطة ما بين الأعوام 2011 وشهر فبراير (شباط) 2014، كما أن الكتلة النيابية التي يترأس، شريكة في الحملة الشرسة لإسقاط التحقيق العدلي، وقد تبنت عريضة العار النيابية حماية حصانات النواب المدعى عليهم بجرم الجناية، وأُريدَ منها الإبقاء على سياسة الإفلات من العقاب.
لا أحد يظن أن المواطنين فقدوا البوصلة، ففي ظل حكومة «القمصان السود» ورّطت ميليشيا «حزب الله» لبنان في الحرب على الشعب السوري. لقد اجتيحت الحدود وانتهك الدستور، وتم عزل لبنان عن محيطه وعمقه العربي، وجرى الضرب عرض الحائط بمصالحه المشروعة، لتبدأ إثر ذلك مرحلة الانهيارات التي فجّرت «17 تشرين». لكل ذلك؛ بديهي أن يقابَل تكليفه تشكيل حكومة جديدة برفض واسع. إن ميقاتي بالنسبة لأطراف قوى ثورة تشرين، من السياسيين المفترض إبعادهم عن الحياة العامة، وستبقى النظرة لدوره أنه في نهاية المطاف الشخص الذي يجسد مشروع حكومة «نظام النترات»، الذي يستخف بمصالح عموم اللبنانيين ويتعامى عن حقوقهم.