كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
يتعلق اللبنانيون بحبال الهواء لكثرة التداعيات التي ألمّت بأحوالهم ويغلّبون حال التفاؤل المفرط في تشكيل الحكومة سريعاً على ما عداه من الاحباط، لعلها توقف حال الانهيار وتحد من حجم الخسائر والانزلاق الى الهاوية أكثر. إلا ان مبعث التفاؤل لا يستند حسب الظاهر حتى تاريخه الى اي معطيات صلبة تعزز ولادة حكومة كانت متعسرة الى أبعد الحدود.
منذ تكليفه لا يتورع الرئيس نجيب ميقاتي عن توزيع ابتساماته واشاعة اجواء ايجابية يحرص كما بعبدا على اشاعتها. والخشية ان يكون الافراط في التفاؤل هدفه التنصل لاحقاً من مسؤولية الفشل. ارتياح ميقاتي تغلفه خشية ان تكون الكلمة الفصل في النهاية لرئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، وسط تسريبات اعلامية تقول ان عون لن يقدم لميقاتي ما تمنع عن تقديمه للحريري، وان من ضمن الشروط للحكومة المقبلة اقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، اي ان المؤشرات تحدث نقزة يتحاشى الرئيس المكلف التعاطي على اساسها طالما لم يتبلغها مباشرة بعد. بعد ثلاثة اجتماعات بدأ بالامس البحث الجدي بالحكومة لجهة الحقائب فعادت أم العقبات الى التسيّد مجدداً لتكون أم المعارك. فالحقيبة التي يعزز وضعها قرب موعد الانتخابات النيابية يريدها الرئيس المكلف من ضمن حصته ولشخصية سنية. فهل يجوز ان ينال ميقاتي اقل مما ناله الرئيس حسان دياب مثلاً؟ وهي ذاتها يريدها رئيس الجمهورية من حصة المسيحيين. وليس بعيداً ان موقعة الداخلية تلك قد تفجر البحث الحكومي من بداياته.
بالامس قدم ميقاتي باكورة تركيباته الحكومية وناقشها ورئيس الجمهورية، ومع اعادة النقاش حول الداخلية جرى استحضار المداورة في الوزارات وحصة رئيس الحكومة والوزراء المسيحيين، ما ولّد انطباعاً لدى المقربين ان ميقاتي لم يكن مرتاحاً ضمناً. وعززت مثل هذه الانطباعات خشية البعض من رهانه كما الحريري على الفرنسيين واتفاقهم مع الاميركيين، ليختصر دورهم في الثناء والتهديد متى دعت الحاجة وليس اكثر. كما ان “حزب الله” الذي وعد ميقاتي بتسميته وتسهيل مهمته الحكومية تمنى الا يطلب منه بالمقابل المونة على رئيس “التيار الوطني” او على رئيس الجمهورية، وثمة من لمس انزعاج “حزب الله” من باسيل لخياره عدم المشاركة في الحكومة أو منحها الثقة، بما يجعل موقفه اقرب لـ”القوات اللبنانية” في عهد عمه ميشال عون. مشكلة اخرى أطلت برأسها وهي التدقيق الجنائي الذي يعتبره عون خارج دائرة النقاش.
سلم ميقاتي للرئيس عون تصوراً لحكومة من 24 وزيراً يفترض ان يبدي ملاحظاته بشأنها اليوم، حصل تبادل معطيات وتوزيع حقائب من دون الخوض بالاسماء وتركز التفاوض حول الداخلية. عارفو رئيس الجمهورية يؤكدون جديته في تشكيل حكومة بأسرع وقت ممكن، غير ان جديته لا تعني تشكيل حكومة كيفما كان وبأي ثمن. منذ تسلم عون رئاسة الجمهورية ولغاية اليوم كانت حقيبتا الدفاع والخارجية من حصة المسيحيين، حصرية تمنع عليهم حقائب المالية او الداخلية. يعترف الرئيس المكلف بوجود مثل هذا الخلل لكنه محرج وهامش مناورته هنا ضيق، بالنظر الى التزاماته مع رؤساء الحكومات ويتمنى لو يبدي الثنائي الشيعي مرونة تساعده في تجاوز هذه العقبة، لكنه قد يتجنب خوض هذه المسألة معهما. يقارب عون مسألة الحكومة منطلقاً من مبدأ حفظ التوازنات ويفاوض من منطلق صلاحياته على الحكومة ككل، مع تسليمه ان التدقيق الجنائي غير خاضع للنقاش من الاساس. اليوم يعود ميقاتي الى بعبدا لإكمال النقاش حول التصور الحكومي الاولي، ومن المؤشرات الايجابية الزيارت الاربع للرئيس المكلف الى بعبدا في غضون ايام ثلاثة، وتلك المرونة في التعاطي مع رئيس الجمهورية والاستعداد للحوار والتي لم يكن يبديها الحريري، واذا طالب ميقاتي بحقيبة ما تشاور بشأنها مع عون ولم يمانع المشاركة في التسمية.
يعبّر الرئيس المكلف لسائليه عن ارتياجه لمجريات البحث الحكومي ويتحدث مطلعون عن مرونة يبديها في المفاوضات واعتراف بصلاحيات عون، ويتمنى ضمناً لو يساعده الرئيس في تخطي العقبات ازاء الضغوطات التي يتعرض لها من قبل رؤساء الحكومات السابقين، اذ ليس دليل صحة ان يخرج من بعبدا ويقصد بعدها بيت الوسط للاجتماع بهم، اقله احتراماً لمقام الرئيس المكلف.
والى العقبات الداخلية ثمة معطى لا يمكن التغاضي عنه، تمثل في مغادرة السفير السعودي وليد بخاري لبنان عائداً الى بلاده بقصد التشاور. في مقارنة سريعة فقد مارس بخاري السلوك ذاته يوم كلف الحريري فاختار ان يبتعد عن المشهد متجنباً حراجة الموقف، حيث لا رغبة في الاتصال بالرئيس المكلف او زيارته على سبيل التهنئة. مؤشر يؤكد ان تعاطي المملكة السعودية مع ميقاتي لم يختلف عن تعاطيها مع الحريري، مع فارق ان القطيعة مع الحريري سببها شخصي بالدرجة الاولى ثم سياسي، اما مع ميقاتي فالسبب حسب ما يؤكد العارفون سببها اعتبار المملكة ان ميقاتي يخوض تشكيل حكومة مع “حزب الله”، الذي لا يزال يواصل حربه عليها في مطارح عدة. وفق المعلومات فان محاولات عدة لميقاتي للتقرب من المملكة ولو على سبيل توضيح الموقف منيت بالفشل، ومع ذلك رغب ميقاتي في خوض غمار التكليف معولاً على المعطى الفرنسي المزكى اميركياً، ذلك ان علاقاته بالادارة الاميركية لم تبلغ درجة التعرف الى افرادها كما في الادارات السابقة، ولذا فهو يستشف الاجواء من الدائرة المحيطة بالاميركيين.
فالى اي مدى يمكنه المضي عكس السير سعودياً؟ هنا السؤال. لا يزال ميقاتي ضمن الفترة المعقولة التي تجعل من المستحيل استباق النتائج في ظل معطيات تتراوح بين السلبي والايجابي، غير ان فيض التفاؤل قد ينقلب الى عكسه في لحظة بحكم ما خرجت به التجارب السابقة.