كتبت زيزي اسطفان في “الراي”:
«أحلى صيفية بلبنان». شعارٌ يحمله اللبنانيون المغتربون في قلوبهم ويصبح المحرّك الرئيسي لخططهم مع بدء كل صيف، فيتركون البلدان التي اتخذوا فيها مقر إقامة وحياة ليهرعوا إلى الوطن الأم ويمضوا أياماً في ربوعه وسط عائلاتهم وأحبتهم.
هذا الشعار كان له وقْعٌ أقوى هذا الصيف مع اشتداد الأزمة المالية ومعاناة غالبية العائلات من تداعياتها المميتة أحياناً، فبدا المنتشرون الذين غالباً ما شكّلوا «الشريان الخفي» في «أعجوبة» الصمود اللبناني رغم كل العواصف التي ضربت الوطن الصغير، وكأنّهم «الأجنحة البديلة» لعائلاتٍ رُميت في فم الانهيار وفي قلب الجحيم بلا أي مظلّة أمان.
زَحَفَ المغتربون إلى بلدهم لمساندة أهلهم مادياً ومعنوياً، ملأوا حقائبهم بما يحتاجه ذووهم والأقرباء من أدوية وحليب ومواد لم تعد متوافرة في الأسواق.
أرادوا إنفاقَ شيء مما جمعوه في تلك البلدان البعيدة لضخ بعض الحياة في شرايين الوطن الذي يُستنزف سياسياً ومالياً حتى «الرمق الأخير» وإنعاش دورته الاقتصادية.
وبعضهم أراد أن يعيش المعاناة إلى جانب أهله ليعرف مُرّ مذاقها.
لكن أحداً منهم لم يكن يتخيّل ما وصلت إليه أوضاع «بلاد الأرز» فكانت الصدمة كبيرة جداً عليهم لمعاينة «بلد العيد» مزنّراً بسواد الأزمات.
صدمة اللبنانيين العائدين، وإن خفّفت من هولها فرحتُهم بلقاء الأهل ومراتع الطفولة، إلا أن الواقع الذي واجههم كان أشدّ من أن يستوعبوه وأقسى مما سمعوا عنه.
سلمى وعائلتها عادوا من جنوب أفريقيا بعد عشر سنوات من الغياب وفي بالهم صورة حلوة عن لبنان وحنين لا يوصف إلى بلدهم المحروس بـ «جبل الغيم الأزرق».
لم ينزعجوا من زحمة المطار وإجراءاته الطويلة، وربما فوجئوا بصفوف السيارات الطويلة التي تنتظر أمام إحدى محطات المحروقات على طريق المطار، لكنهم ظنوا أن الأمر لا بدّ أن يُحلّ قريباً، فهم لا يودّون سوى رؤية النصف الملآن من الكوب.
وصلوا إلى قريتهم الساحلية وفتحوا بيتهم القديم بعدما تمّ تجهيزه لهم ليفاجؤوا منذ الليلة الأولى بأنهم لم يستطيعوا النوم بلا مكيّف وسط حرّ لاهب بعدما عَمَدَ صاحب المولّد في الحي إلى إطفائه أربع ساعات ليلاً، فقضوا ليلتهم الأولى على الشرفة يطردون البرغش ويتسامرون آملين أن يكون الغد أفضل…
ليست تلك تفاصيل يمكن للشخص التغاضي عنها وتجاوزها، إنها أساسيات.
لا شك أن المغتربين رأوها على شاشات التلفزيون وسمعوا عنها من الأهل، لكن عيْشها في الواقع يختلف عن مشاهدتها على الأخبار وفي الصور.
أتى هؤلاء العائدون متحمسين فرحين وفي قلبهم رغبة حقيقية في المساعدة وتمضية أوقات حلوة، فهم يملكون تلك الدولارات «الثمينة» التي تمكّنهم من حلّ كل ما يصادفهم من مشاكل يومية، وظنوا أنهم قادرون على شراء راحة البال بها وانتشال أهلهم مما هم فيه.
خدمات لا تشتريها الدولارات
لكن الواقع، بحسب ما يصفه جهاد الحكيم الخبير الاقتصادي والأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت صدمهم. لقد وجدوا أنهم غير قادرين على الحصول على الأساسيات حتى بوجود العملة الصعبة وأن أموالهم لا تفتح لهم الأبواب.
كيف «يهزمون» تقنين الكهرباء ويشغّلون مولّد الحي الذي لا يجد مادة المازوت؟ كيف يفتحون بريدهم الإلكتروني ويتواصلون مع العالم عند انقطاع خدمة الواي فاي مع انقطاع التيار الكهربائي؟ هل ينعزلون عن العالم في حال لم يستطيعوا تشريج هاتفهم وتشغيل خدمة الإنترنت فيه حتى وإن كانوا في عطلة؟ والأهمّ هل يمكن للأموال التي يحملونها أن تؤمن لهم المستلزمات الّطبية والدواء إذا تعرّضوا لحادث أو عارض صحي واضطروا لدخول المستشفى؟
«الذين يقدمون الخدمات الأساسية» باتوا بحسب الحكيّم «محتكرين لها، ولم يعد رضى المستهلك يهمهم بل صاروا يفرضون شروطهم على المستهلكين أو يبيعون الخدمة بأغلى من ثمنها، بحيث وجد المغترب نفسه رهينة الصيدلية ومحطة الوقود وصاحب المولّد وغيرهم يحتاج إلى واسطة للحصول على خدماتهم».
وأضاف: «حتى الدوائر الرسمية اختلف تَعامُلها مع المغترب القادم من الخارج إذا احتاج إلى إجراء معاملة رسمية أو قانونية أو إلى ورقة رسمية.
ذلك أن الموظف في القطاع العام لم يعد لديه الحافز لإتمام واجباته على أكمل وجه.
فراتبه لم يعد يساوي شيئاً وبالكاد يكفيه ولذا تفاقمت عنده حالة عدم الإنتاجية، وهي حالة كان القطاع العام يعانيها سابقاً، وصار اليوم في مرمى الرشاوى والفساد أكثر من السابق.
وأصبح عدم وجود البنزين وعدم قدرة الموظف على إصلاح سيارته إذا أصابها عطل، عذراً كي لا يأتي إلى عمله.
وهكذا تحوّل وضع الخدمات التي يقدمها القطاع العام أسوأ بمئات المرات من قبل».
ويتابع الحكيّم موصفاً الوضع: «وجد المغتربُ العائد أنه قد لا يتمكن من إنجاز معاملاته الإدارية بسبب نقص في الطوابع الأميرية ونقص في الورق والحبر للطباعة، كما وجد أن الكثير من الخدمات بات غير متوافر أو مطلوب تسديده بالدولار مثل خدمة التأمين على الصحة أو السيارة.
فالعائد إلى لبنان في إجازة من بلد قريب وجد أنه يجب أن يدفع لشركات التأمين بالعملة الصعبة وإلا فإن التغطية التي يتوقّعها قد لا تكون متوافرة في حال تعرض لحادث.
هذا دون أن ننسى بلا شك أرصدته العالقة في المصارف واضطراره إلى سحبها بالليرة اللبنانية وبأقلّ من قيمتها بأضعاف».
إذاً المغترب العائد المتسلّح بدولاراته والذي كان يعتقد أنه يمكن أن يمضي أجمل إجازة في ربوع بلده صُعق للواقع الذي رآه بأمّ العين ولا سيما سرعة انهيار الليرة في الشهرين الأخيرين وعدم توافر الخدمات الرئيسية له رغم امتلاكه للمال الذي بدا وكأنه… «لا يُصرف».
وداعاً للسُفر والعزائم
لكن الكثيرين من العائدين يرفضون الاعتراف بهذه الصدمة، فالوطن بالنسبة إليهم ليس فندقاً يبحثون فيه عن أفضل الخدمات بل هو الأهل والأصدقاء ومشاركة أبناء الوطن في السراء والضراء. على أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل لا يزال الأهل قادرين على استقبال المغترب العائد والترحيب به كما اعتادوا؟ هل يمكنهم مدّ السفرة له وملئها بما لذّ وطاب من «المشاوي والكبة النية والفاكهة اللبنانية الشهية» هم الذين لم يعد بإمكانهم الحصول على هذه المواد كالسابق نظرا لارتفاع أثمانها بشكل جنوني؟
وهل ما زال متاحاً للعائلة اصطحاب المغترب كما كانت العادة الى أماكن اللهو والسهر هي التي يحمل أفرادُها على أكتافهم جبالاً من الهموم تمنع عنهم الفرح وتقف حاجزاً بينهم وبين التنعم بأوقات حلوة، ويرزحون تحت ضائقة مالية توجب عليهم إنفاق ما تبقى في جيوبهم بحذر بعدما احتُجز «قرشهم الأبيض» في البنوك وتُركوا فريسة «الأيام السود» تنهش واقعهم وأحلامهم؟
صُدم العائدون بلا شك بالوضع النفسي لمواطنيهم وبحالة الإحباط والقرف التي يعيشونها. وتقول سيلينا، وهي طالبة تدرس في باريس: «لم أتوقع ما رأيتُ، حزنتُ لوضع أهلي في البيت رغم كوننا عائلة ميسورة، ولأحاديثهم الدائمة عن غلاء الأسعار وحجْز مدخراتهم في المصرف، وخوفهم مما هو آتٍ.
حزنتُ لحال أصدقائي وصرتُ أخجل من دعوتهم إلى السهر لأنني أعرف أنهم غير قادرين على تسديد فاتورة المطعم أو السهرة، وكبرياؤهم يمنعهم من تركي أتولى الدفع بما جمعتُه من مبالغ بسيطة من عملٍ كنت أقوم به الى جانب الدراسة… صرت أتمنى المغادرة بأسرع وقت حتى أتجنب هذا الإحساس بالذنب».
عادل، العائد من المملكة العربية السعودية، كان يتوق للذهاب إلى المناطق الجبلية التي افتقدها وإلى الأماكن السياحية مثل جبيل والبترون وصور التي يسمع أنها تعيش أجمل صيف وتعج بالنشاطات الترفيهية والحياة الليلة.
هو عائد «ليتسلى» ويشحن نفسه بالطاقة قبل العودة إلى العمل.
استأجر سيارة ليتنقل بين هذه المناطق، لكنه فوجئ في اليوم التالي لوصوله بقطع الطرق احتجاجاً على اعتذار الرئيس سعد الحريري في بعض مناطق بيروت، وهو أمضى أكثر من ساعتين عالقاً لا يعرف أين يتجه ثم عاد أدراجه إلى بيته.
وفي اليوم التالي علق في زحمة سير خانقة على طريق الجنوب نتيجة تكدس السيارات أمام محطات الوقود فأمضى نهاره على الطريق: «لم أتوقع هذه المعاكسات اليومية، فقد كنتُ أظن أن السهر «ولعان» في بعض المناطق كما أخبروني.
وقد اختبرتُ ذلك بنفسي، لكنني عرفتُ أيضاً أن أي حادث بسيط يمكن أن يعكّر هذه الأجواء، وأي خبر سياسي سلبي يمكن أن يقلبها رأساً على عقب».
رغم كل هذه الصدمات لا يزال مطار رفيق الحريري الدولي يستقبل يومياً آلاف العائدين من اللبنانيين المستعدين لتحمّل كل صعاب وطنهم لأسبوع أو أسبوعين أو شهر ومن ثم العودة الى بلدانهم واستعادة نوع آخر من الحياة صار بالنسبة للبنانيين المقيمين حلماً بعيد المنال، فيه وقود وبحبوحة وكهرباء و… راحة بال.