من أكثر الخسائر فداحةً في تاريخ العنف في لبنان تلك التي ولّدها انفجار مرفأ بيروت… سقوط مئات الشهداء والجرحى وتدمير أحياء بكاملها ومئات المنازل والمستشفيات والمؤسسات.
لكن «بيروتشيما» يكاد يكون الأول من نوعه في لبنان الذي أصاب بشظاياه الطبقة السياسية والمؤسسات الأمنية إصاباتٍ مباشرة، وهي الإصابات الوحيدة التي لم يتحسّر عليها اللبنانيون.
بعد عام من أكبر انفجار عرفه العالم بعد هيروشيما وناغازاكي، ظهرت الشظايا في أجسام القوى السياسية، التي ما زالت تكابر في الدفاع عن نفسها ووجودها.
للوهلة الأولى توحي هذه الطبقة بأنها لم تتأثر، بدليل أنها لم تتزحزح من مكانها، وتحاول معاودة إنتاج قبضتها. لكن في الحقيقة أن كل شيء تَغَيَّرَ منذ 4 أغسطس 2020.
ولو لم تأتِ جائحةُ «كورونا» التي استغلّتها السلطةُ لتُمْعِنَ في إجراءات القمع والإقفال العشوائي من دون أي بنى طبية تحتية وتأخيرٍ في إطلاق عملية التلقيح، لَكانت المفاعيل السياسية للانفجار وقبْله انتفاضة 17 أكتوبر 2019 أكثر ظهوراً وحدّة ودويّاً.
أكمل الانفجارُ، في ملابساته وتداعياته، ما بدأتْه ثورة 17 أكتوبر، من انكسارِ «هيبة» القوى السياسية التي تُعانِدُ من دون أي خجل. شعار «كلن يعني كلن»، جعل الجميع سواسية حتى في الاتهامات التي أُطلقت إثر انفجار المرفأ.
لم يَعُدْ أي طرف خارج إطار الاتهامات خصوصاً بعد انكشاف الآثار الانسانية والتدميرية التي خلفها «زلزال» الرابع من أغسطس. فمن أصاب الانفجار سياسياً؟ وما تداعياته بعد عام؟
حاولت السلطةُ السياسية استثمارَ الانفجار والاستفادة من مسارعة الدول الغربية والعربية إلى المساعدة الإنسانية. تحوّل القصر الرئاسي في بعبدا والسرايا الحكومية «خلية نحل» في استقبال الموفدين السياسيين، وخُيّل للسلطة أنها أعادت تعويم نفسها.
حاول رئيس الجمهورية ميشال عون تحويل المأساة «فرصةً» لفك العزلة عن العهد، فأعاد فتْح أبواب القصر المغلقة أمام حركة موفدين دوليين ولقاءات سياسية على مستوى دولٍ حصرت اهتمامها بالشق الإنساني، في حين أن السلطة في لبنان استخدمت العامل الإنساني لتطرح نفسها مجدداً في مقدمة الحَدَث السياسي.
وجاءت مبادرةُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتساهم أكثر في إعطاء مزيد من الأوكسجين للقوى السياسية التي استفادت من «الفرصة» فأنقذت نفسها من السقوط مع الضحايا. واعتبر العهد أن الفرصة سانحة كي يكون في مقدمة الحدَث بعد شهور من المقاطعة الخارجية له، لكنه في الوقت عيْنه، كان أقلّ تعبيراً عن التضامن الإنساني مقارنة بالحجم الهائل للكارثة الوطنية.
ردّ فعل الناس في بيروت المنكوبة كان تجاه العهد، لا سيما حين جاء الرئيس ماكرون وجال في بيروت بعد يومين من الانفجار، ولم يزر الرئيس اللبناني الأحياء المدمّرة.
قيل يومها إن عون بسبب سنّه لم يستطع التجول في الشوارع وبين حُطامها، فاكتفى بزيارة موقع الانفجار، لكنه في المقابل رفض تدويل التحقيق ووعد بنتائج تحقيق في مهلة لا تتخطى خمسة أيام.
بعد سنة من الانفجار، يحاول عون الإفادة من مجريات الحدث، أُعلن 4 أغسطس يوم حداد، وطني لكنه لم يستقبل أهالي الضحايا. وعد بتحقيق سريع، وحاول الدفاع عن المدير العام للجمارك بدري ضاهر قبل توقيفه، وكذلك الأمر في ملف رفع الحصانة عن المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا.
إذا كان عهد عون استفاد من تعويم نفسه، خصوصاً أنه لم تطَل الاتهامات أحداً من وزرائه، فإن حزبه «التيار الوطني الحر» كان أول الخاسرين.
في اللحظة الأولى بدا مشهد الانفجار يطول أكثر ما يطول البيئة المسيحية في بيروت.
عصْفُ الانفجار توجّه شرقاً، فحلّ الدمار في الأشرفية، إضافة إلى المرفأ وأحياء بكاملها وشرّد الآلاف.
ظهر هذا التيار وكأنه معني بالاتهامات، نتيجة تراكمات عام من الحملات ضده، فلم يتمكن من أن يكون حاضراً في مشهد بيروت.
وُجّهتْ الإتهامات إلى السلطة السياسية وإلى العهد، وإلى المنظومة كلها، فكان «التيار الحر» أول المستهدَفين.
حتى أنه لم يستطع أن يواكب على الأرض المساعدات أو عمليات الإنقاذ، ولم يتمكن أي مسؤول فيه من الحضور إلى الأرض المحروقة، خصوصاً في مقابل تولي «القوات اللبنانية»، خصمه التقليدي، الحضور الميداني بعدما سقط لها ضحايا وعملت على تقديم مساعدات فورية.
الحضور السياسي للتيار الحر في بيروت تَضَرَّرَ في شكلٍ كبير، وهو ما يترك أثراً بالغاً في الانتخابات النيابية المقبلة، رغم أنه يحاول منذ استدعاءات المحقق العدلي القاضي طارق بيطار بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وأربعة وزراء (سابقين) – نواب (حاليين) وقادة أجهزة أمنية (حاليين وسابقين) وقضاة أن يوجه في بياناته، المسؤولية عن وجود «نيترات الأمونيوم» في المرفأ إلى مسؤولين سابقين وحاليين لا ينتمون إليه.
المتضرر الثاني كان الأجهزة الأمنية. كل الأجهزة الأمنية موجودة في المرفأ بطريقة أو بأخرى، باستثناء قوى الأمن الداخلي،… الجيش وأمن الدولة والأمن العام والجمارك.
فعدا عن الإصابات المباشرة للضباط والعسكريين، الموجودين في المرفأ، فإن السهام القضائية طالتْهم بقوة، رغم اختلاف المستويات.
وبيّن المحقق الأول فادي صوان (الذي أُبعد عن الملف) والثاني طارق بيطار، فإن رؤساء الأجهزة الأمنية باتوا في دائرة الشبهة، بغض النظر عن وصول الملف إلى خواتيمه.
قائدٌ سابق للجيش، مع اثنين من مديري مخابراته، المدير العام لأمن الدولة، المدير العام للجمارك، المدير العام للأمن العام.
حتى الآن، قائد الجيش الحالي ومدير المخابرات الذي وقع الانفجار أثناء ولايتهما، لم يطلهما التحقيق، رغم أن هذا الأمر ما زال مثار تساؤلات. إلا ان التحقيق والادعاءات والاستدعاءات طالت الأجهزة الأمنية من دون استثناء.
وهذا الأمر ليس سهلاً، حين تصبح الأجهزة المسؤولة عن الأمن، متورطة ليس في التفجير كعمل، إنما في الإهمال وفي عدم المتابعة والملاحقة وكل ما ساعد في إيجاد بيئة مهيأة للانفجار الهيروشيمي.
إضافة إلى أن التقارير التي رفعتْها الأجهزة وضباطها ذوو الرتب المخفوضة، أثبتت أن التحذيرات من خطورة المواد الموجود في المرفأ موثّقة في المراسلات، وهو ما أرخى ظلالاً من الشك على هذه الأجهزة التي أصبحت في دائرة الاتهامات.
الطرف الثالث هو الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل).
لم يخرج أي تحقيق قضائي ليتحدّث عن صلة لـ «حزب الله» أو الثنائي الشيعي كقوة سياسية بما حصل في المرفأ أو أي علاقة بنيترات الأمونيوم.
لكن الاتهام السياسي طال الحزب أولاً، وثانياً الاتهام القضائي الذي طلب رفع الحصانة عن ثلاثة وزراء يدورون في فلك الثنائي، أي غازي زعيتر وعلي حسن خليل ومعهما وزير «تيار المردة» يوسف فنيانوس، إضافة إلى طلب استدعاء المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. وبمجرّد أن جرت محاولة تمييع رفع الحصانة عن الوزراء – النواب الثلاثة (وحده فنيانوس ليس نائباً) وعدم الموافقة على استدعاء ابراهيم، تحولت الأنظار إلى «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة «أمل»)، وما سينعكس عليه من تبعات التحقيق القضائي، وهو الأمر الذي يتحول مع اقتراب ذكرى الانفجار، أحد عناوين المرحلة.
المتضرر الرابع كان رئاسة الحكومة. دفع دياب ثمن «بيروتشيما»، إذ قدّم استقالة حكومته في 10 أغسطس، ولم ينجُ من آثار الانفجار، بعدما تبين أن أحد الضباط الكبار نصحه بعدم تفقد المرفأ قبل أيام من «الزلزال»، إثر ورود تقرير عن وجود مواد خطرة فيه.
تضامن رؤساء الحكومات السابقين ضد قرار قاضي التحقيق السابق صوان في الادعاء عليه، فزاره الرئيس سعد الحريري متضامناً. لكن استقالة دياب التي فتحت الباب أمام عودة الحريري إلى التكليف، لم تؤتِ ثمارها.
انفجار المرفأ أسفر عن اتهامات لجميع القوى السياسية، بعد التظاهرات التي جرت تحت العنوان نفسه.
عاد الحريري واعتذر عن التكليف على أبواب ذكرى الإنفجار، وعادت الدوامة نفسها.
ورغم أن الاتهامات الأمنية لم تطل أياً من المحسوبين على الحريري أو «تيار المستقبل»، إلا أن الانفجار بالمعنى السياسي أرخى شكوكاً على الطبقة السياسية كلها التي شاركت في إدارة العملية السياسية منذ ما قبل الانفجار.
ولم يكن عابراً أن الانفجار والتحقيقات في شأن ملابساته تحوّل «كرة نار» تتقاذفها القوى السياسية في الحرب الباردة الدائرة بينها، وتحاول استخدامها في التوظيف السياسي عبر تصفية حسابات.
وظهر هذا الأمر جلياً في الموقف من طلب القاضي بيطار منْحه أذونات لرفْع الحصانة عن نواب وملاحقة وزراء وأمنيين وقضاة.
ودخلت على الخطاب السياسي – الإعلامي عناوين مثيرة مثل «نواب العار» و«نواب النيترات» للدلالة على النواب الموقّعين على عريضة لـ «طلب اتهام وإذن بالملاحقة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء» (هيئة خاصة مؤلفة من نواب وقضاة يعيّنهم البرلمان وينبغي توافر غالبية ثلثي أعضاء المجلس لانعقاده) وليس أمام المجلس العدلي (لدياب وكل من خليل وزعيتر وفنيانوس والوزير السابق النائب نهاد المشنوق).
واللافت أن الموقّعين هم نواب من «المستقبل» و«الثنائي الشيعي» بعدما نأى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بنفسه عن هذا الأمر، ورأى «الثنائي المسيحي» – التيار الحر والقوات – ان الأمر تحايلاً على مضي القضاء وتحقيقاته.
ولم يكن أمام الحريري الذي أصيب بشظايا قاسية من جراء إظهار تياره كأنه يجافي الحقيقة والعدالة، إلا أن يندفع إلى الأمام عبر تقديم اقتراح عبر عريضة يتم جمع تواقيع النواب وكتلهم عليها، تقضي
بـ «تعليق كل المواد الدستورية والقانونية التي تعطي حصانة أو أصولاً خاصة بالمحاكمات لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء والنواب والقضاة والموظفين وحتى المحامين وهكذا يتساوى الجميع أمام حجم هذه الجريمة ويتوجه الجميع الى المحقق العدلي».
وثمة مَن رأى في اقتراح الحريري، الذي من شأنه رفع الحصانات عن الجميع وتقديمهم لمحاكمة واحدة، ربْطَ نزاعٍ شمل به رئيس الجمهورية باعتبار أنه كان جاهر بأنه علِم قبل نحو 15 يوماً من الانفجار بأمر المواد الخطرة في المرفأ (من خلال تقرير) ولكنه قال «كان الأوان قد فات»، وتالياً خطوة في اتجاه رفع الحصانة عن عون، وأيضاً لقطع الطريق على استثمار فريق عون لهذا الملف في إطار تصفيه الحساب مع الحريري – الرئيس نبيه بري.
قلة من السياسيين والأمنيين «نجوا» من انفجار المرفأ بالمعنى السياسي.
وذكرى 4 أغسطس سيُكتب لها مجدداً أن تكون مناسبة للتذكير بأن مئات الضحايا والجرحى سقطوا فيما القوى السياسية كانت تعلم بوجود مواد متفجرة في المرفأ، من دون أن يرفّ لها جفن.
https://www.alraimedia.com/article/1547605/خارجيات/سلطة-الشاهد-ما-شافش-حاجة-لم-تنج-وربما-الآتي-أعظم