كتب نذير رضا في “الشرق الاوسط”:
خلال لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الكتل السياسية اللبنانية في قصر الصنوبر في بيروت، مطلع أيلول 2020. التزم اللبنانيون بتشكيل حكومة لبنانية خلال أسبوعين، وذلك بعد تكليف السفير مصطفى أديب بمهمة تشكيلها. اعتذر أديب، ثم كُلّف الرئيس سعد الحريري لمدة 9 أشهر، واعتذر قبل أن يتم تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، ولم يتم تشكيل حكومة حتى الآن.
ويمثل هذا الفراغ على مستوى السلطة التنفيذية، واحداً من معالم انهيار الدولة على المستوى السياسي، بالنظر إلى الخلافات والتباينات والاصطفافات والحسابات المستقبلية لقوى سياسية، لم تسمع صوت الشعب، كما لم تستجب للضغوط الدولية، وكان آخرها تبني الاتحاد الأوروبي مشروع عقوبات على السياسيين اللبنانيين.
كان انفجار المرفأ بمثابة صدمة، وراهن كثيرون على أن يكون حافزاً إضافياً لتشكيل حكومة تنفذ الإصلاحات المطلوبة منها على المستوى الدولي، والنهوض بالبلد من مسار اقتصادي ومعيشي يتحدر يومياً، وتخاطب المجتمع الدولي الذي يشترط وجود حكومة بمنأى عن التدخلات السياسية لتقديم الدعم. لكن الأزمات والضغوطات الدولية لم تحقق أي خرق على مستوى إصلاح المسار السياسي بعد انفجار المرفأ في 4 آب الماضي، إذ فشلت محاولتان لتشكيل حكومة لبنانية بعد استقالة حكومة الرئيس حسان دياب في 10 آب 2020، تمثلا في تكليف السفير مصطفى أديب، وبعده الرئيس سعد الحريري، فيما كلفت الأغلبية النيابية في الأسبوع الماضي الرئيس نجيب ميقاتي، ليكون التكليف الثالث منذ استقالة الحكومة قبل عام.
يمكن وصف الوضع بـ«بلاد بلا حكومة طوال عام كامل»، انحدر فيها المستوى المعيشي إلى أدنى مستوياته إثر توقف الدعم، وتراجع احتياطات «مصرف لبنان» من العملة الصعبة لدعم السلع الأساسية. شهد اللبنانيون أسوأ أزمات لم يختبروها خلال ثلاثين عاماً، وفي مقدمها انقطاع المحروقات، وتنظيم طوابير أمام محطات التوزيع، وانقطاع الكهرباء والأدوية، وأحجام الجهات الضامنة عن تغطية كامل نفقات الاستشفاء، وظهور موجة هجرة للشباب اللبناني وأصحاب الاختصاص والكفاءات.
بالموازاة، انقسم اللبنانيون بين تحالفات وقوى سياسية، وخسرت معظم القوى والأحزاب التقليدية، الدعم الدولي إثر الانقلاب على التزاماتها، خصوصاً تجاه الرئيس الفرنسي الذي قام بزيارتين خلال شهر أغسطس الماضي، التقى خلالها سياسيين وممثلين عن المجتمع المدني. وأعلن في زيارته الثانية في مطلع سبتمبر أثناء مشاركته في احتفال مئوية «لبنان الكبير»، أن «الأطراف السياسية كافة من دون استثناء التزمت بألا يستغرق تشكيل الحكومة أكثر من 15 يوماً»، بعد ساعات على تكليف أديب، وتحدث عن حكومة بمهمة محددة مع شخصيات ذات كفاءة، مؤلفة من مجموعة مستقلة ستحظى بدعم جميع الأطراف السياسية التي التزمت مع رئيس الحكومة المكلف.
وقال إنه توصل مع الأفرقاء السياسيين الذين التقاهم إلى «خريطة طريق» تتناول «إدارة مرحلة ما بعد الانفجار، ودعم السكان، وإعادة بناء المرفأ، وإصلاح الكهرباء، ومراقبة رؤوس الأموال، ومكافحة الفساد». وقال: «خريطة الطريق ليست شيكاً على بياض أُعطي إلى السلطات اللبنانية. إذا لم يتم الإيفاء بالوعود في تشرين الأول، فستكون هناك عواقب»، مضيفاً: «إنه مطلب محدّد له برنامج زمني يمتد بين ستة إلى ثمانية أسابيع». كما لم يستبعد الرئيس الفرنسي ذلك، وقال: «إذا تم فرض عقوبات، فسيكون ذلك بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي».
مرّ نحو عام على زيارة الرئيس الفرنسي. لا يخفي السياسيون في لبنان امتعاض المجتمع الدولي من الأداء السياسي، ما دفع أصدقاء لبنان لتحويل وجهة اهتماماتهم من مخاطبة القوى السياسية إلى الرهان على المجتمع المدني. عقد أكثر من لقاء بين مسؤولين دوليين وممثلين عن المجتمع المدني والأحزاب الوليدة بعد انتفاضة 17 أكتوبر 2019. ومن ضمنهم مسؤولون من الولايات المتحدة ومن فرنسا.
أما على الجانب السياسي، فقد فرضت عقوبات أميركية على الوزيرين اللبنانيين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل، لضلوعهما في «الفساد» ودعم «حزب الله» الذي تصنفه واشنطن «منظمة إرهابية». وقال وزير الخزانة الأميركي آنذاك، ستيفن منوتشين، في بيان، إن «الولايات المتحدة تدعم شعب لبنان في مطالبته بإصلاحات، وستواصل استخدام كل السبل المتوافرة لديها لاستهداف مَن يقمعونه ويستغلونه».
تواصلت العقوبات الأميركية لتستهدف رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل «على خلفية الدور الذي لعبه في انتشار الفساد في لبنان». وجاءت العقوبات في إطار قانون ماغنيتسكي العالمي للمساءلة في مجال حقوق الإنسان، وطبّق للمرة الأولى في لبنان.
وعلى الضفة الأوروبية، وقبل أسبوع من ذكرى انفجار المرفأ، أقر الاتحاد الأوروبي، إطاراً قانونياً لنظام عقوبات يستهدف أفرادا وكيانات لبنانية ما من شأنه أن يوفر احتمال فرض عقوبات على المسؤولين عن تقويض الديمقراطية وحكم القانون في لبنان. وتزامن مع إعلان فرنسا عن استعدادها «لزيادة الضغط مع شركائها الأوروبيين والدوليين على المسؤولين السياسيين اللبنانيين لتحقيق ذلك».
خسرت الطبقة السياسية خلال عام بلا حكومة، رهانات المجتمع الدولي ودعمه، وخسر اللبنانيون قدرتهم على الاستمرار في بلد يفتقر إلى أدنى مقومات العيش، ولا يزال السياسيون يحاولون تدوير الزوايا للتوصل إلى اتفاقات بشأن تشكيل حكومة تُدخِل في معاييرها الحسابات السياسية والحزبية، وسط نقمة شعبية ورهانات على تغيير منتظَر في انتخابات الربيع المقبل النيابية.