كتب عادل مشموشي في “اللواء”:
مر التقرير الأخير لمكتب التحقيق الفدرالي الأميركي مرور الكرام على معظم السياسيين اللبنانيين، وكأن الأمر لا يعنيهم، وكأني بهم يعيدون الكرة في الإيحاء ولو بصمت عن عجزهم أو عدم أهليتهم على تحملِ مسؤوليات سياسيةِ، أو لعدمِ قُدرتِهِم على تقدير الموقِف، وإيلاءِ كارِثةِ انفِجارِ مرفأ بيروت الأهميةِ التي يستوجِبُها.
أصيب المسؤولون اللبنانيون كباقي اللبنانيين كما العالم أجمع بحالةِ ذهولٍ فور سماعِهِم دوي الإنفجارِ الذي سُمِع صداه في مُعظمِ الدولِ المُجاوِرةِ للبنان حتى شعر المُقيمون في جزيرةِ قُبرُص باهتزازاتِهِ الأرضية، وقد عمت أصداءهُ نشراتِ الأخبارِ والصحُفِ على امتِدادِ العالمِ أجمع، وحدهُم المسؤولون اللبنانيون اكتفوا بالإدانةِ والاستِغرابِ وتلهوا بتقاذُفِ المسؤوليات، رغم إبلاغِ أو عِلمِ البعض منهم مُسبقا بوجودِ شحنةِ النيتراتِ الخطرةِ وإطلاعِهِم على مغبةِ إبقائها مُخزنة في أحدِ عنابِرِ مرفأ بيروت القريبِ من الأحياءِ السكنِيةِ في العاصِمة.
وحدهُ العقيد الصديقُ جوزيف سكاف، الضابِطُ السابِقُ في الجمارِكِ اللبنانِيةِ وعى خُطورة إنزالِ شُحنةِ نيترات الأمونيوم الضخمةِ إلى مرفأ بيروت، لا بل أشار جهارة وبصراحةٍ مُطلقةٍ لضرورةِ إبعادِها عن المرفأ إلى عرضِ البحر، ولكن للأسفِ لم يُؤخذُ برأيِهِ بل أُهمِل ولم يُكلف أي مسؤولٍ نفسهُ عناء الاستعلام عن مخاطرِ تلك الموادِ أو التمحيصِ في مدى صوابية الرأي الذي أبداه العقيدُ سكاف، والذي نخشى أن يكون قد دفع ثمن صراحتِه، لأن وفاته في حادث مأساوي بقي غامِضا.
مواقِفُ المسؤولين كافة سواء من كانوا في السلطتينِ التنفيذِيةِ والتشريعِية، أم كانوا قد تقاعدوا أو لم يعودوا في موقِعِ المسؤولِيةِ الوظيفِيةِ كوزراء سابِقين وقادةٍ أمنيين مُتقاعِدين وغيرهُم لم تكُن على قدرِ الحدث ولا على حجمِ فداحةِ الأضرارِ البشرِيةِ والماديةِ التي تسبب بها الانفِجار. حادِث لو حصل في دولةٍ تحترِمُ ذاتها أو في بلدٍ شعبُها مُتحضر يعي حُقوقهُ السياسِية لكان أوجب تنحي مُعظم المسؤولين عن مراكِزِهِم لا بل لاعتزل عدد كبير منهم للعملِ السياسي، ولاقتضى الأمرُ، نظرا لهولِ الجريمةِ، كف يدِ جميعِ العاملين في مرفأ بيروت من عسكريين وأمنيين ومدنيين، ورؤسائهِم التسلسُليين ومنعهُم من مُزاولةِ أي نشاط وظيفي، ورُبما وضعهُم موضِع الاقامةِ الجبرِيةِ لِحين تكشفِ مُلابساةِ جريمةِ تفجيرِ مرفأ العاصِمة.
السؤالُ الذي يطرحُ ذاتهُ: لما هذا الإرباكُ والتخبطُ في القرارِ السياسي الذي تلى انفِجار المرفأ مُنذ ذاك الحين وإلى اليوم؟ ولما كُل هذا الصمتِ رغم المعلوماتِ الخطيرةِ التي تضمنها أو يُستدل عليها من مضمونِ تقريرِ مكتبِ التحقيقِ الفِدرالي الأميركي، وما يترتبُ في حال صِحةِ التحليلاتِ التي بني عليها والاستنتاجاتِ التي خلُص إليها؟ أما الجوابُ على هذين التساؤلين لا يتطلبُ العناء الكثير، وإنما يُعزى إلى أحدِ أو بعضٍ من الأُمورِ التالِية:
– سوء تقدير للموقِفِ المُستجد وبالتالي لخُطورةِ الانفِجار ولفداحةِ الأضرارِ التي تسبب بها، وللتبِعاتِ التي قد تترتبُ عليه.
– عدمُ مُبالاةِ المسؤولين كعادتِهِم دائما، ظنا منهم أن الحادِث المُزلزِل سيمُر كما مر غيرهُ من حوادِث وأحداثٍ أليمةٍ وكارِثِية.
– عدمُ امتِلاكِ الجُرأةِ اللازِمةِ للإعرابِ عن موقِفٍ أو تحملِ المسؤولِية، وعدمُ الأهلِيةِ لإدارةِ الأزمات، وخاصة المُفاجِئةُ والحادة.
– عدمُ قُدرةِ المسؤولين على اتخاذِ قراراتٍ غير اعتِيادِيةٍ في ظُروفٍ استِثنائية، وبالتالي افتِقارُهُم للمزايا القياديةِ وفي صدارتِها القُدرةُ على اتخاذِ القرار إبان الأزمات.
– إحاطةُ مُعظمِ المسؤولين السياسِيين بزُمرٍ من المُستشارين المارِقين الوصوليين المُطبلين والمُزمرين التافِهين الذين لا يجرؤون على إسداءِ نصيحةٍ نصوحةٍ صادقةٍ تنِم عن معرفةٍ ودراية.
– افتِقادُ البعضِ منهم للاستقلالِيةِ وانتِظارِ التعليماتِ التي ترِدُهُم من مرجعِياتِهِم أو من الجِهاتِ التي تدعمُهُم سِياسِيا ومالِيا أو التي أتت بهم لمواقِعِ المسؤولِية.
– ضلوعُ بعضِ المسؤولين في جريمةِ المرفأ الكارِثِيةِ أو ارتِهانهم لدُولٍ أو جِهاتٍ أو تنظيماتٍ ضالِعةٍ في عملِيةِ تهريبِ شُحنةِ النيترات، أو ظنا منهم أن تِلك الشحنة تمت لصالحِ تلك الجِهات ولو عن غير عِلم.
يقتضي منا الشعورُ بالمسؤوليةِ تنبيه المعنيين وكبار المسؤولين إلى مغبةِ تجاهُلِ ما ينطوي عليه التقريرُ المُشارُ إليه من أُمورٍ لها مدلولات خطيرة، وخاصة لجِهةِ ما تضمنهُ من تحليلٍ يؤكدُ على أن ما تفجر من كميةِ نيترات الأمونيوم المشحونةِ يُعادِلُ 552 طنا من أصل 2750 طنا، أي ما يقِل عن خِمسِ الكميةِ التي خُزنت في العنبرِ والتي شُحِنت على متنِ السفينة …… كما ألمح التقريرُ إلى أن باقي الشحنةِ قد سُرِق من داخِلِ العنبر. ونحنُ نرى من منظار ثقافتنا الأمنية أن مثل هذه الكميةِ لا يُمكنُ أن تكون قد سُرِقت، ولا يُمكِنُ أن يحصل ذلك على مرأى ومسمعٍ من المسؤولين وعمُومِ العاملين في المرفأ، وعليه نخلُصُ للقولِ أنه، في حالِ صِحةِ ما خلُص إليه التقرير المشار إليه، سنكون في معرضِ تسريبٍ لمُعظمِ الشحنةِ إلى مقصدِها الأساسي.
كما نُضيفُ أنهُ في حالِ ثبُت ذلك فنيا، ومن مُختبراتٍ موثوق بها هذا الاستنتاج، سيكونُ لبنانُ في مهب فضيحةٍ مُدوية من العيار الثقيل، لا يقِل صداها عن صدى انفِجارِ المرفأ بحد ذاتِه، ولن تكون ارتجاجاتُها وانعكاساتُها أقل وطأةٍ عن الاهتِزازاتِ الأرضِيةِ التي تسبب بها الانفِجارُ المُزلزِل، وأن عصفها لن يكون أقل أضرارا على المُستوى السياسِي من حجمِ الأضرارِ البشريةِ والماديةِ التي تسبب بها عصفُ الانفِجار الذري المفعول.
قلنا ونقولُ ذلك، لأن الموضوعِية تقتضي منا عدم التعامي عن منطِقِ الأُمور، ولأن مِثل هكذا كمياتٍ لا يُمكِنُ سرِقتُها ولو من قِبلِ مجموعةٍ من اللصوصِ ولو كانوا من أكثرِ السارِقين مهارة أو ممن اعتادوا على تكرارِ الإجرامِ أو مُعتاديه، لا بل إن الأكيد أنها سُربت وكانت لا تزالُ تُهربُ إلى حين افتِضاحِ أمرِها إلى الجِهاتِ التي جُلِبتِ الشحنةُ لصالِحِها. كما أنه لا يُمكِنُ أن يقوم بهذهِ العملِيةِ إلا جِهات قادِرة أو جماعات مُنظمة تُتقِنُ العمل الاستِخباراتي، وبذاتِ الوقتِ لديها عُملاء في أوساطِ أجهِزةِ الدولةِ تعملُ لِصالِحها أو بإيعازٍ منها. ولا يُمكِنُ أن يتِم ذلك أيضا من دونِ توفرِ باعٍ طولى لها في إدارةِ عملياتِ الاستيرادِ والتصديرِ والشحنِ والتخزينِ والتدقيقِ في الوثائقِ الخاصةِ بالشحُناتِ، أو عملياتِ التفتيش التي تُجرى في مرفأ بيروت، والتي غالِبا ما تخضعُ البضائعُ المُستوردةِ أو المُصدرةِ لها كإجراءاتٍ امنِيةٍ وجُمرُكِيةٍ احتِرازِيةٍ أو رقابِية.
والخشيةُ كُل الخشيةِ أن يكون لتِلك الجهاتُ أو الجماعاتُ خلايا أُخرى في مُختلِفِ منافِذِ العُبورِ المُعتمدةِ رسمِيا أو تُسيطِرُ على منافِذِ عُبورٍ ومعابِر غير مُعتمدةٍ رسمِيا أي غيرِ شرعِية، سواء كانت جويةٍ أو بحرِيةٍ أو برية، أو أن تكون الشحنةُ ليست الأولى وقد سبقها شُحُنات أخرى عبر المرفأ أم غيرهُ من منافذِ العبورش اللبنانية.
وكذلك نرى أنهُ لو صح فِعلا ما هو وارِد في تقريرِ مكتبِ التحقيقاتِ الِفدرالي الأميركي ستكونُ الدولةُ اللبنانيةُ في موقِفٍ حرجٍ كما هو حالُ الزوجِ المخدوع، لفداحةِ المخاطِرِ التي ينطوي عليها مثلُ هذا الأمر.، إذ يُستشف من كُل ذلك عِدةُ أُمورٍ جوهرِيةٍ على قدرٍ كبيرٍ من الخُطورة.
أولها: ضلوع مسؤولين لبنانيين كِبار ورُبما يكونون من العسكرِيين أو الأمنيين أو المدنيين ممن لهُم تأثيرُهُم وسُلطتهُم وقُدرتهُم على إعطاءِ توجِيهاتٍ مُلزِمةٍ تُخالِفُ روحِية القوانين والأنظِمةِ والتعليماتِ النافِذة والمعمولُ بها في المرفأ وباقي منافِذِ العُبورِ الشرعِية، وليس آخرُها عجزُ الدولةِ بمُكوناتِ أجهزتِها الحالِيةِ عن إحكامِ سُلطتِها على مرافِقِها العامة.
إن هذه المسألةِ تتطلبُ وعيا حُكومِيا ووطنِيا، لذا نهيبُ بالمسؤولين أن يكونوا على قدرِ المسؤولياتِ المُلقاةِ على مواقِعِهم، والمناصِبِ التي يشغُلُونها، والتحلي بالروحِ الوطنِية، وأن يقفوا موقِفا مُشرفا ووطنِيا بامتياز، ومُقاربةُ المسألةِ بوعيٍ وحِرصٍ كبيرين، كي لا يدفع لبنانُ وشعبُهُ أثمانا إضافية بمعرضِ كشفِهِ لمُلابساتِ هذه الجريمةِ النكراء. ويُقدم قرابين جديدةٍ على مذبحِ مرفأ بيروت، تُضافُ إلى جُملةِ القرابين البشريةِ التي كانت أضحية الانفجار الشنيعِ، إلى جانبِ الخسائرِالماديةِ الفادِحةِ التي تسبب بها الانفِجار. وعليه ينبغي السعي إلى توافُقٍ سِياسِي داخِلي وتطلبُ اتخاذِ قراراتٍ استِثنائيةٍ تكونُ على قدرِ الحادِثِ الحدثِ ومُستجداتِه. ونُشيرُ إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
– اعتبارُ جريمةِ انفجارِ المرفأ جريمة مُنظمة عابِرة للوطنِيةِ أي ذاتُ طابعٍ دولِي، وبالتالي تقعُ مسؤوليةُ كشفِها ومُحاسبةِ الضالِعين فيها على عاتِقِ المُجتمعِ الدولي وليس لبنان وحده.
– رفعُ هذه الجريمةِ إلى مجلِسِ الأمنِ الدولي، بواسِطةِ الدولةِ المُمثلةِ للدولِ العربِيةِ في هذا المجلِس، لوضعِ يدِهِ عليها وتبني الإشرافِ على مُتابعةِ التحقيق فيها.
– طلبُ تشكيلِ لجنةِ تحقيقٍ دولِيةٍ برئاسةِ قاضٍ لُبناني، ولا ضير إن سُمي المُحققُ العدلي الحالي لتولي رِئاستِها، على أن تُعزز بخُبراء من جِنسياتٍ مُختلِفةٍ ضمانا لاستِقلالِها وتجردِها ولعدمِ تحيزِها ولمِصداقِيةِ التقاريرِ والقراراتِ والنتائجِ التي ستصدُرُ عنها على ضوءِ التحقيقات التي ستُجريها.
– اتخاذُ قرارٍ بكف يدِ جميعِ المسؤولين الذين تولوا مهام أو مناصِب ذاتِ علاقةٍ بمرفأ بيروت مخابراتِيا وأمنِيا أو في ما يخص عملِياتِ الشحنِ والاستيرادِ والتصدير، وذلك اعتِبارا من تاريخِ قُدومِ الشحنةِ موضوع التحقيق، ولما بعد حُصولِ الانفِجارِ بأسبوعٍ على الأقلْ أو لشهرٍ كحد أقصى.
– أن يُصار إلى تكليفِ لجنةِ التحقيقِ المُقترح تشكيلُها لتولي التحقيق عما إذا كانت قد شُحِنت إلى لبنان أو عبره من مرفأ بيروت أو من أي منفذِ عُبورٍ آخر شُحُناتُ أسلِحةٍ أو مواد ممنوع الاتجارُ أو التداولُ بها لأغراضٍ مشبوهة.
– الإيعازُ إلى كافةِ المسؤولين السياسِيين الذين كانوا يتولون مسؤولياتٍ سِياسِيةٍ على علاقةٍ بما حصل من قريبٍ أو بعيدٍ في مرفأ بيروت للإستِقالةِ أو التنحي طوعا عن مراكِزِهِم، أو إقصائهِم عنها في حالِ تمنعوا عن ذلك تِلقائيا.
– وضعُ جميعِ المُشتبهِ بهم أو من توجدُ شُبُهاتٍ شِبهِ أكيدةٍ بحقهِم تحت المُراقبةِ، ومنعُهُم من السفرِ كي لا تتكرر عملِيةُ الفرارِ على غِرارِ ما حصل مع تلك المطلوبةِ الفارةُ الضالِعةُ في قضِيةِ اختِلاساتِ بنك المدينة.
– العملُ على إقرارِ واستِصدارِ قانونٍ يُقر بغالِبِيةِ ثلاثةِ أرباعِ أعضاءِ مجلِسِ النوابِ الحالي(أي الأكثرية المتطلبة لتعديل الدستور)، ينص صراحة على تعليقِ الحصاناتِ كُل الحصاناتِ والضماناتِ على مُختلِفِ أشكالِها في كُل المُلاحقاتِ ذاتِ العلاقةِ بجريمةِ تفجيرِ مرفأ بيروت.
– تحديثُ مهلةٍ زمنيةٍ لا تزيدُ عن السنةِ أو السنتين كحد أقصى لكي تُنجز لجنةُ التحقيقِ المُنوهِ عنها تحقيقاتِها وتودِعُ تقاريرها بنتيجتِها. للمرجعِ القضائي المُختص.
– إقرارُ قانونٍ يقضي بحصرِ صلاحِيةِ النظرِ بقضِيةِ المرفأ بالمجلسِ العدلي دون غيرِهِ من المحاكِمِ الجزائيةِ العادِيةِ أو الاستِثنائية، على أن تكون قراراتُ لجنةِ التحقيقِ قابِلة للإستئنافِ أمام الغرفةِ الجزائيةِ لمحكمةِ التمييزِ، على أن تكون الهيئةُ العامةُ لمحكمةِ التمييزِ هي المرجعُ الصالِحُ للطعنِ بالقراراتِ والأحكامِ التي تصدُرُ عن المجلِسِ العدلي، بما في ذلك تلك الفاصِلةُ بقضِية انفجارِ المرفأ برمتها، على أن تكون أحكامُها غير قابلةٍ لأي طريقٍ من طُرُقِ المُراجعةِ العاديةِ والاستثنائيةِ باستثناءِ طلبِ إعادةِ المُحاكمة.
ونخلصُ من كُل ذلك للقولِ بضرورةِ أخذِ هذه المُقترحاتِ جُملة وتفصيلا على محملِ الجد وقبل فواتِ الأوان.
اللهم اشهد أني بلغت.