IMLebanon

بيروت الغاضبة في “الأربعاء الكبير”… صوتٌ واحد من أجل العدالة

كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي” الكويتية:

هو وشاحٌ أسود من حزنٍ مجبولٍ بالغضب لفّ بيروت التي لملمتْ جِراحَ انفجار الرابع من أغسطس و«مشتْ» مع عشرات آلاف المتضامنين معها ومع 218 ضحية أُطفئت أمس «شمعةُ قَتْلِهم» الأولى ونحو 6500 مُصاب كأن عصْفَ «بيروتشيما» تَقاذَفَهُم بالأمس الذي لم ينفكّ يُستعاد 365 مرّة في سنةٍ من عمر وطنٍ تكاتفتْ فيها كارثتان طبعتا التاريخ… ثالث أقوى انفجار في العالم (بعد هيروشيما وناغازاكي) وثالث أسوأ أزمة مالية «في الكوكب» منذ 1850.

أمس لم تكن ذكرى تفجير مرفأ بيروت لـ «العِبرة». فحتى الحِداد على الضحايا لم يبدأ، ولن يكون قبل كشْف الحقيقة التي كانت تنبض في القلوب والصرخات التي ارتفعتْ مطالبة بالعدالة لمَن قتلتْهم مئات الأطنان من نيترات الأمونيوم التي أُدخلت المرفأ في نوفمبر 2013 (كانت 2750 طناً) و«استوطنت» في العنبر رقم 12 حتى انفجار ما بقي منها (552 طناً) في 4 أغسطس 2020، اليوم الذي تَغَيَّرَ فيه وجه العاصمة التي لم تخرج بعد من تحت الركام.

بدموع الموجوعين والمفجوعين، بعيونِ المصدومين والساخطين، بأعلام لبنان «المنكوب»، بصور «اللي راحوا»، بشعاراتِ الوعد والتوعّد بـ «الانتقام» بالحقيقة ولها، بملصقاتٍ لغالبية المسؤولين عُلِّقت في الشوارع وخُتمت بالأحمر «مُجْرِم»، بعناوين أطلّت على مسؤولية «كل الطبقة السياسية» عن «الجريمة ضدّ الانسانية» ودعت لمحاسبة «كلن يعني كلن» بدءاً من رئيس الجمهورية ميشال عون الذي انطلق اعتصامٌ مطالِباً باستقالته، وصولاً إلى الأسئلة عن دور «حزب الله» في حماية تخزين النيترات «وهل حوّل العنبر رقم 12 مستودع متفجرات بالتواطؤ مع الدولة اللبنانية؟ وهل كان يزوّد النظام السوري بالنيترات ليحوّلها براميل متفجرة لرميها على رأس شعبه؟» (كما سأل رئيس حزب الكتائب سامي الجميل)…

كلها وأكثر كانت «عُدّة» الغضب في المسيرات الحاشدة التي عمّت العاصمة… من مركز فوج إطفاء بيروت الذي أُرسل 10 من عناصره في «مهمة انتحارية»، مروراً بوقفات أمام مستشفيات العاصمة التي سالت منها الدماء في ذاك اليوم المشؤوم ولكنها أنقذت الآلاف وهي «تعض على جرحها» وأمام قصر عدل بيروت الذي يُراهَن على أن تولد منه الحقيقة، وصولاً الى مسرح الجريمة التي أقيم فيها قداس ترأسه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وتابعه الآلاف في محيط الموقع قبل الانتقال الى تخوم مجلس النواب حيث كانت ساحة الشهداء شهدت منذ بعد الظهر تجمعات شعبية.

وعند السادسة وسبع دقائق مساءً، وهي الساعة التي «انفجرت» فيها بيروت، ساد الصمت المدوّي العاصمة وعموم لبنان… وحدها أجراس الكنائس والتكبيرات تعانقت في صوت واحد يخترن ألم مدينةٍ وناسها الذين اندفعوا بعد عام على «أم الكوارث» ليعلنوا «كفى»، من خلْف كل الترهيب المعنوي الذي مورس لإحباط عزيمتهم على «تلبية نداء» مَن سقطوا و«لن تذهب دماؤهم هدراً»، وكل الإجراءات الأمنية التي اعتُبرت مُعَرْقِلة لوصول جحافل المُشاركين الذين وُجّهت الدعوات إليهم حتى من أحزاب الى جانب المجتمع المدني ومجموعات انتفاضة 17 أكتوبر 2019 التي بدا أمس أنها… استعادت «روحها».

وفي موازاة المشهدية الكبيرة التي ارتسمت وجاءت مدجَّجة بالرسائل للسلطة السياسية التي ما زالت غارقةً في لعبة تقاسُم الحصص فوق «جثة» وطنٍ وشعبه الذي يصارع أعتى أزمة مالية والتي تتهيّأ لحرق فرصة جديدة لتأليف حكومةٍ كُّلف بتشكيلها الرئيس نجيب ميقاتي، كانت الأنفاس محبوسة حيال مفاجآت لوّح بها ذوو الضحايا على أن تستهدف معنيين بموضوع الحصانات التي طلب المحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق بيطار رفْعها في سياق الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي أطاح به عصْف «بيروتشيما» و4 وزراء سابقين بينهم 3 نواب حاليين وقادة أجهزة أمنية (بتهم الإهمال والتقصير الجنائي)، وذلك تحت شعار «سقطت الخطوط الحمر».

وترافق ذلك مع مؤشراتٍ مقلقة، أعربت أوساط عدة عن خشيتها من أن تكون تمهيداً لإشكالاتِ متعمّدة أو يجري استدراج حصولها لتخطف «العدسات» من موقع الحدَث الرئيسي، كان أولها ضبْط الجيش أسلحة في سيارة كانت متّجهة للمشاركة في إحياء الذكرى، ووقوع إشكال عند حاجز للأمن العام قرب مركزه (في السوديكو) مع أهالي الضحايا على خلفية إقفال الطريق بالعوائق، قبل تسجيل إشكال آخر في الجميزة خلال مرور موكب للحزب الشيوعي واستهداف مركز لحزب «القوات اللبنانية» في المنطقة ما أدى لوقوع 4 جرحى، في ظل التداول بوثيقة أمنية عن جهوزية عالية تحسّباً لأي أعمال شغب أو محاولات لدخول مقرات رسمية وهو ما لاحت طلائعه عصراً في محيط البرلمان حيث وقعت مواجهات عنيفة مع القوى الأمنية أسفرت عن أكثر من 20 جريحاً.

وفيما كانت بيروت، ومعها عموم لبنان، «تهبّ» دفاعاً عن ناسها وتشكل «درع حماية بشرياً» عن الحقّ بالعدالة لأبنائهم (وهم من مختلف المناطق ومن جنسيات عدة)، باغتت «بلاد الأرز» اندفاعة النار من الحدود الجنوبية مع إسرائيل التي شهدت إطلاق 3 صواريخ من الأراضي اللبنانية سقط 2 منها في مستوطنة كريات شمونة والثالث في سهل مرجعيون، وهو ما أعقبه ردّ إسرائيلي على دفعات بقصف مدفعي استهدف مناطق لبنانية عدة في سهل الخيام وقضاء مرجعيون.

ورغم أن إشاراتٍ إسرائيلية صدرت ووضعت هذه الصواريخ برسم فصائل فلسطينية، وإن حمّلت مسؤوليتها للحكومة اللبنانية، فإن أوساطاً سياسية في بيروت تساءلت عن توقيت هذه العملية الذي بدا وكأنه أصاب 3 عصافير بـ «حجر واحد»:

الأول توجيه رسالة عبر «صندوق النار» اللبناني على طريقة «الإنذار المبكّر» بإزاء أي تمادٍ إسرائيلي – أميركي في ردٍّ خارج «قواعد الاشتباك» على إيران في إطار «حرب الناقلات» المستعرة.

والثاني إشاحة النظر عن «الأربعاء الكبير» إحياءً لذكرى انفجار المرفأ ومحاولة التخفيف من الزخم الشعبي لهذا اليوم المشهود، الذي واكبه لبنانيو الانتشار في عدد كبير من المدن والعواصم الغربية، والذي كانت كل المؤشرات تشي بأنه محمَّلٌ بأبعاد متعددة تطلّ على الأزمة السياسية كما على مجمل وضعية الائتلاف الحاكم (فريق رئيس الجمهورية وحزب الله) الذي يحمل بين يديه «كرة النار» الانهيار.

أما الثالث، فبدا معه وكأن الصواريخ الثلاثة شكّلت ما يشبه «العملية التذكيرية» للمجتمع الدولي الذي كان مجتمعاً «عن بُعد» في مؤتمر الدعم الثالث للشعب اللبناني الذي نظّمته فرنسا والأمم المتحدة بمشاركة عربية وغربية تقدّمها الرئيس إيمانويل ماكرون والرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وملك الأردن عبدالله الثاني، ورئيس وزراء الكويت الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الى جانب مشاركة دول أخرى.

وإذ برز في الشق المالي من المؤتمر تقديم كل من فرنسا والولايات المتحدة 100 مليون يورو ومئة مليون دولار كمساعدات للشعب اللبناني، فإن جوهر المؤتمر ركّز على اعتبار تشكيل الحكومة الجديدة مدخلاً للانتقال من الدعم الانساني غير المشروط إلى المساعدات الاقتصادية الحقيقية التي تتوقف على إطلاق مسار الإصلاحات الجدية، وفق ما عبّر عنه بايدن وماكرون، كما على عنصريْن أطلّ عليهما الرئيس السيسي بدعوته لتشكيل حكومة «بعيداً عن المصالح السياسية»، مذكراً بأن بلاده «بذلت جهوداً عدة، منذ 4 اغسطس 2020، للمساهمة في حل الأزمات السياسية، بفعل ما يربطها من علاقات مع مختلف المسؤولين اللبنانيين، والاتصالات لا تزال مستمرة والتنسيق قائم مع دول صديقة أخرى من أجل الوصول الى حل يناسب اللبنانيين»، مضيفاً: «تدعو مصر مجدداً كل دول المنطقة الى الابتعاد عن سياسة المحاور، والعمل على بذل الجهود لتخطي الازمة التي لا تعود بالنفع على أحد، ومصر مستعدة إلى تقديم دعمها لكل الأطراف».

ولم تقلّ دلالةً دعوة رئيس الوزراء الكويتي «الى ضرورة التوصل الى توازن سياسي واقتصادي وقضائي في لبنان، وإيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية الحالية»، مشدداً على «أن الكويت قدمت مساعدة إضافية بقيمة 30 مليون دولار لترميم وإنشاء الإهراءات (…)»، مؤكداً «أن لبنان وصل الى مفترق، وعلينا القيام بكل شيء من أجل مساعدته على تجاوز هذه المحنة، ولكن من المهم أن يجد اللبنانيون بأنفسهم حلولاً، لانه لا يمكن للمجتمع الدولي الاستمرار في المساعدة من دون قيام لبنان بخطوة موحدة وتضامنية في الداخل».

وكان ماكرون استهلّ المؤتمر الذي مثّل فيه لبنان الرئيس عون وبرز فيه حضور الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، بطلب من الرئيس الفرنسي بصفة مراقب، مقّدماً ما يشبه «المحاكمة» للطبقة السياسية والسلطات اللبنانية الرسمية التي أكد أن المساعدات (من ضمنها 500 الف لقاح ضد كورونا) لن تمرّ عبرها بل عبر الأمم المتحدة وجمعيات المجتمع المدني، معتبراً «أن الازمة التي يعيشها لبنان هي ثمرة فشل فردي وجماعي وأفعال غير مبررة، ونتيجة أخطاء حصلت ضد المصلحة العامة»، مشدداً على «أن كل الطبقة السياسية ساهمت في تفاقم الأزمة عندما وضعت مصالحها الشخصية فوق مصالح الشعب اللبناني، وهناك مَن يراهن على اهتراء الوضع وهذا خطأ تاريخي وأخلاقي».

واذ أكد «هذه مساعدات إنسانية لدعم الشعب ولكن لن يكون هناك شيك على بياض يستفيد منه النظام السياسي»، توجه الى عون ودعاه «الى تشكيل حكومة وإيجاد التسوية اللازمة، وتطبيق الورقة التي تم التوصل اليها قبل عام من الآن»، وأضاف: «تمكنا من اتخاذ تدابير مقيدة ضد الشخصيات المنخرطة بالفساد والتعطيل السياسي في لبنان، ووضعنا مع شركائنا الأوروبيين نظاماً خاصاً بالعقوبات من أجل لبنان، ولا يجب على المسؤولين فيه أن يشكوا بتصميمنا على تطبيق هذه العقوبات، وهذا يصحّ على تأليف الحكومة وإنجاز الاصلاحات والتحقيق في انفجار المرفأ وإجراء الانتخابات النيابية بموعدها».

أما بايدن فأكد «تضامن الجميع من أجل إنقاذ لبنان بعد الانفجار المهول الذي أصابه منذ عام»، وقال «أدعو نظرائي في الدول كافة الى تعزيز دعمهم للشعب اللبناني، ولكن كل هذه المساعدات الخارجية لن تكون كافية، اذا لم يلتزم القادة اللبنانيون في القيام بالعمل الصعب انما الضروري، لإجراء الإصلاحات الاقتصادية ومكافحة الفساد. ويجب قيام حكومة بشكل سريع، للعمل على أولوية وضع لبنان على طريق النهوض، وإذا اختار القادة اللبنانيون هذا الخيار، فسيجدون الولايات المتحدة الى جانبهم في كل خطوة لبناء مستقبل واعد أقوى للبنانيين، وليس هناك من وقت لإضاعته».

من جهته أكد الرئيس عون «أن لبنان يمر اليوم بأصعب أوقاته، ولم يعد بإمكانه انتظار الحلول الإقليمية ولا الكبرى، وهو بحاجة الى كل مساعدة ومساندة من المجتمع الدولي»، مشدداً على «أننا اليوم في مرحلة جديدة»، آملاً بتشكيل حكومة «قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، والتحضير للانتخابات النيابية المقبلة، بالتوازي مع بناء الثقة مع شركائنا الدوليين والتواصل مع صندوق النقد الدولي».