كتبت رلى ابراهيم في “الأخبار”:
365 يوماً على فاجعة 4 آب، كان يمكن خلالها بناء مدينة أخرى وتسميتها بيروت. لكنّ تنصّل الدولة من مسؤوليّاتها معطوفة على قرار دولي بإغلاق «الحنفية» عن قوى السلطة والاستثمار بالجمعيات والهيئات، أدّيا الى معاقبة شعب بكامله ومنع عودة المهجرّين قسراً من المناطق المنكوبة والتي لا تزال كما تركت عشيّة الانفجار. تعمّد الجيش حصر كل المهام المتعلقة بإعادة الإعمار بغرفة الطوارئ الخاصة به وعمل كمنسّق بين الجمعيات، مطلقاً أيديها لتفعل ما تريد من دون رقابة أو إشراف وتوجيه. الحصيلة: 1.6 مليار دولار تلقّتها الجمعيات والهيئات والمنظمات لإعادة إعمار بيروت، لم يرَ منها الأهالي سوى الفتات ومساعدات عينيّة عبارة عن كمامات وأدوات تنظيف ومواد معقّمة… والكثير من السندويشات. الدولة تتصرّف كما لو أن انفجار المرفأ لم يقع!
السؤال الأبرز الذي يفترض أن يُطرح بعد مرور عام على انفجار 4 آب في مرفأ بيروت هو: «وينيّي الدولة»؟ غالباً ما كان يتردّد هذا السؤال في كل مرة يُخالَف فيها القانون أو يتم توثيق فساد ما أو يتهرب قاتل وسارق وسياسي من العقاب بغطاء من أجهزة الدولة وممثليها. لكن، منذ 4 آب 2020، انكفأت كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وإداراتها إلى حد الاختفاء. ثمة ما يفوق المتوقع، حتى من سلطة قضت سنواتها الأربعين تبني دويلاتها ومحمياتها على هامش الدولة ومؤسساتها. كيف لتفجير بهذا الحجم يُعدّ واحداً من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، ألا يقابل بخطة شاملة ومتينة تضمن إعادة إعمار ما تهدّم وإعادة المهجّرين قسراً الى بيوتهم؟ ولماذا لم تعمد الدولة الى رفع الردم والأنقاض من المرفأ حتى اليوم؟ التبرير الأساسي للجيش الذي يتولى إدارة عملية الإعمار، كما لوزارة الأشغال العامة وإدارة المرفأ هو عدم توفر الأموال اللازمة للقيام بهذه الأعمال. وتلك كذبة يُراد منها الإبقاء على الدمار والركام، لإبقاء أبواب التسوّل من الخارج مفتوحة، كما لتحقيق مكاسب سياسية لبعض الجهات والقوى فوق الركام. فالدولة اللبنانية وجيشها لا يملكان، ولو رقماً تقريبياً لقيمة الأضرار اللاحقة بالمرفأ والمناطق المجاورة، ولم يقم أي جهاز رسمي بإجراء أي مسح شامل وحقيقي على الأرض. لا يحدث ذلك إلا في البلاد التي تحكمها مافيات، حيث يتغلّب منطق الربح والمصالح الشخصية وحيث يفرض حُكّام المال أجنداتهم وأجندات مُشغّليهم. إذ لا يتعلّق الأمر بفقدان الطاقات البشرية أو القدرات التقنية؛ جُلّ ما في الأمر أن ثمة قراراً موافقاً عليه بالإجماع بإبقاء ما تهدّم تحت الركام، وهناك من يستخدم الصورة القاتمة والأوجاع في معاركه الانتخابية.
تضخيم الأرقام لمنع الإعمار
في موازاة ذلك، عمد «المجتمع الدولي» في محطات عدة الى تضخيم أرقام إعادة الإعمار لإبقاء مفتاح بيروت في جيبه ورهنها بقرار سياسي وبالشروط التي يفرضها. فسبق لمصرف «غولدمان ساكس» أن حدد تكلفة عملية إعادة إعمار المرفأ وحده، بين 3 مليارات و5 مليارات دولار، بينما قدّرت خطة «إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار للبنان» المُعدّة من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، إعادة إعمار مرفأ بيروت ومحيطه والمواقع الأثرية والتراثية، كما تقديم دعم لـ 5 آلاف مؤسسة صغيرة، بـ 2.5 مليار دولار. الأرقام المضخمة تكذبها جهات غير رسمية عمدت الى إجراء مسح أولي للأضرار في المرفأ والمناطق المنكوبة، بحيث قدّرت مصادر نقابة المقاولين في لبنان كلفة إعادة إعمار المرفأ بقيمة تراوح ما بين 400 و500 مليون دولار كحدّ أقصى. ومن خلال تقارير المدارس والمستشفيات وغرفة الطوارئ الخاصة بالجيش وغيرها، جرى تقسيم التكاليف كما يأتي: 300 مليار ليرة لإعمار ما نسبته 90% من المنازل. 237 مليار ليرة للمدارس والجامعات، 500 مليار ليرة للمستشفيات و500 مليار ليرة للمؤسسات التجارية. الأرقام هذه لا تشمل الأبنية المتصدّعة والتي تحتاج الى إعادة بناء بالكامل (قدرت غرفة الطوارئ التي يديرها الجيش من داخل مبنى بلدية بيروت عدد المباني التي تعرضت لأضرار هيكلية وتمثل خطر انهيار كُلّي بـ 25 مبنى، أو جزئي بـ 62 مبنى). أي ما يقارب مجموعه 1500 مليار ليرة لبنانية، وهو المبلغ الذي ورد في القانون 194 المتعلق بإعادة إعمار ومعالجة تداعيات انفجار مرفأ بيروت.
تتعمّد «الجهات الدولية» تضخيم حجم الأضرار في غياب أيّ مسح رسمي وأيّ رقم ولو تقريبي للخسائر
إلا أن هذا المبلغ لم يصرف سوى جزء زهيد لامس 150 مليار ليرة وزعها الجيش كتعويضات على الأهالي. هنا أيضاً، ما من جواب حول عدم استكمال التعويضات المطلوبة لإنجاز الجزء الكبير من العودة وإعادة الإعمار. فضلاً عن أن اللجنة التي تشكلت لمتابعة هذا الموضوع بموجب القانون 194/2020 والتي يرأسها ممثل عن قيادة الجيش وتضم ممثلين عن وزارة الدفاع والداخلية والأشغال العامة والمالية والثقافة بالإضافة الى المديرية العامة للتنظيم المدني والشؤون العقارية والهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار ونقابة المهندسين في بيروت ومحافظ مدينة بيروت وبلديتها والمؤسسة العامة للإسكان، ويدخل كل ما يخص تخمين كلفة إعادة الإعمار والترميم وتقدير التعويضات والمسح الشامل للأضرار ضمن مهامها، لم تعقد سوى اجتماع شكلي للقيام بمهامها التي لم تنجزها قط. فرئيس اللجنة لم يَدعُ الى أي اجتماع آخر، رغم أن مهلة إنهاء المهام حُدّدت بثلاثة أشهر من تاريخ تشكيل اللجنة. ما حصل فعلياً هو حصر كل ما يتعلق بالمناطق المنكوبة بغرفة الطوارئ التي يديرها الجيش، وذلك يقود الى السؤال عما إذا كان الأمر متعمداً حتى يبقى القرار الفعلي على الأرض منوطاً بالمؤسسة العسكرية التي أعلنت دول الغرب مراراً أنها لا تثق سوى بها. هكذا، اقتصر العمل اليومي على التنسيق القائم بين غرفة الجيش والجمعيات وسط تكتّم حول الأعمال المنجزة من قبل الأخيرة، وهي المنظمات الوحيدة المستقطبة لأموال ومساعدات خارجية. فقد رفضت الغرفة أكثر من مرة إطلاع «الأخبار» على أسماء الجمعيات العاملة في المناطق المنكوبة وعددها والمهام التي تنفذها تحت إطار «الحفاظ على الخصوصية»، ونفت أن يكون لديها أي معلومة تتعلق بحجم المساعدات المالية للجمعيات، باستثناء الأرقام التي تصرّح عنها الأخيرة بنفسها. كذلك سبق لرئيس الغرفة السابق العميد سامي الحويك أن قال لـ«الأخبار» إن الغرفة تنشر على الموقع الخاص بالانفجار أسماء الجمعيات التي توافق على نشر اسمها، وهي اليوم، بحسب ما هو منشور على موقع الغرفة، 95 جمعية، علماً بأن لا قدرة للجيش على إجبار الجمعيات على التعاون معه، بل ينتظر الماكثون في الغرفة حجّ الجمعيات إليهم. في وقت كان يفترض أن يكون نشر أسماء الجمعيات والهيئات المدنية بديهياً كما الأعمال والمبالغ التي تصرفها طالما أن لا لبس في عملها، ولأنها تعيب على السلطة عدم الشفافية في صرف القروض والهبات. لا بل تولّت هذه الجهات إطلاق حملات ممنهجة لمنع وصول أي مبالغ من البنك الدولي أو سواه الى السلطة تحت هذا العنوان بالذات! وهنا ثمة مسؤولية أساسية على وزارة الداخلية التي تخضع الجمعيات لرقابتها ولا يمكنها العمل إلا برخصة من الوزارة، كما يفترض عليها اطلاعها على ميزانيتها؛ وذلك لم يحصل أيضاً.
الجيش بأمر الجمعيّات
اكتفاء الجيش بالقيام بدور المنسّق بين الجمعيات والأهالي، رغم تكليفه بمهمة إعادة الإعمار وإطلاق يديه، خلق العديد من المشكلات وساهم في تعزيز اللامساواة والعمل السياسي الانتخابي لمصالح لا تمتّ للإنسانية بصلة. فقد وثّقت بعض الجمعيات عدة مخالفات في هذا الصدد، من المتضررين الذين تلقّوا زيارات، ولم يحصلوا على أي مساعدة وممّن رُمّمت منازلهم بشكل عشوائي ليسقط بعدها ما تمّ ترميمه بفترة وجيزة، وغيرهم ممّن تلقّوا وعوداً بتعويضات على عدة أشهر، فتم تزويدهم بدفعة واحدة فقط. وهو ما وثّقته أيضاً منظمة «هيومن رايتس ووتش» في بيان نشر في أيلول 2020 عن «جمعيات ومؤسسات تنتحل صفات جمعيات أهلية وأسماء جمعيات مجتمع مدني تستغل وجع الناس لتنفيذ أهداف خاصة أخرى كالاحتيال والسرقة». ولا يرتبط ذلك حصراً بجمعيات «وهمية»، كما أشارت المنظمة، بل ينسحب أيضاً على تلك التي فرضت نفسها أمراً واقعاً تحت عنوان «إنساني»، علماً بأن هذه الجمعيات والهيئات حصلت على مبالغ خيالية. فقد أشار تقرير حديث صادر عن «مرصد الأزمة» التابع للجامعة الأميركية في بيروت، مبني على بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، حصول لبنان خلال العام الماضي (2020) على 1.6 مليار دولار مُنِحَ جُلُّها عبر الهيئات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية بزيادة قدرها نصف مليار دولار عن الرقم المسجل عام 2019. وبذلك، احتلّ لبنان المرتبة الثالثة عالمياً من ناحية تلقّي التمويل والمساعدات الإنسانية الدولية، بعد سوريا واليمن. 1.6 مليار دولار كانت تكفي لإعادة المناطق المنكوبة ومرفأ بيروت، بأفضل مما كانت عليه قبل الانفجار. لكن سوء إدارة هذا الملف، وترك الجمعيات تسرح وتمرح من دون رقابة أو إشراف ومن دون إجبارها على اعتماد خطة معيّنة بمهل معيّنة طالما أن لا خبرة لها في هذا المجال، ساهم في تبديد المبلغ ومنع إعادة إعمار المنازل التي تهدمت حتى تتحقق عودة الأهالي. أضف إلى ذلك أن «المجتمع الدولي»، حليف قوى السلطة، استفاق اليوم على فساد الأخيرة، فقرّر وضع كل مساعداته في سلّة الجمعيات. لكن بعد مرور عام على الانفجار، لا تزال بيروت منطقة منكوبة كما كانت عليه بعيد 4 آب 2020. والأسوأ من ذلك، أن المليار ونصف مليار دولار ستضاف الى 10 مليارات سابقة سبق أن دُفعت جزئياً للجهات نفسها من دون أن يتم رصد أي وجهة لاستخدامها. فيما الخاسر الأكبر ليس سوى منكوبي بيروت الذين فُجعوا بالانفجار ويموتون يومياً نتيجة غياب أي خطة لدعمهم والتعويض عليهم. فجُلّ ما حصلوا عليه سوى الفتات ومساعدات عينية عبارة عن كمامات وأدوات تنظيف ومواد معقّمة… والكثير من السندويشات!