كتب منير الربيع في “المدن”:
يحدث ما قد يُخرج المرء عن المألوف. خصوصاً في بلاد التعب. يدفع عجين الحزن نحو اختمار الغضب. حينها تسقط السياسة من مستواها وقواعدها، في بلاد كسرت كل القواعد، وفي زمن لا قاعدة للوضوح فيه، بقدر ما تكتمل ظروف سيادة الدجل أو التفاهة. ما يجري في لبنان، نتيجته الخروج عن “قواعد المهنة”، وعن التعاطي مع الوقائع بتجرد كما هو. مع الأسف هي ليست كذلك، لا في المهرجانات التضامنية داخلياً ولا خارجياً. كل مواقف التضامن إفتراضية على شاكلة عقد اجتماعاتها، أو بالأحرى مفترضة. وكأن لبنان يخرج من الزمن. أو يدخل في التجربة المماثلة لتجارب سبقه إليه محيطه، ولطالما رفع هو “الخرزة الزرقاء” للحماية من الحسد أو “صيبة العين”، تلك كانت مقدمة لقسوة المشهد، ومحولة لوضع عين من زجاج لا ترى، ولا نظر فيها. عند تفجير مرفأ بيروت قبل سنة، بدأت الرؤية بالانقشاع، فوق الركام والدمار، ومن أثر الغبار الذي أحدثه دوي النيترات، كان لا بد من اتضاح الصورة.
غاية ماكرون
صورة مغايرة لما يجري تقديمه من حفلات التضامن وزيارات المساندة، بما حملته من تشفِّ تارة من سياسيين وطوراً من قوى اجتماعية اتهمها الرئيس الفرنسي بأنها عاجزة عن صوغ رؤيتها، ولذلك أبلغها اضطراره التعاطي مع الطبقة السياسية، التي حافظت على وجودها في صناديق الاقتراع. وفيما بعد، عمل على مهاجمتها وفرض عقوبات عليها، لأنها لم تنقذ مبادرته. ففتح يده مجدداً للمجتمع المدني والتعاون الانتخابي. وما هي إلا أسابيع حتى يعود إلى قواعده بدعم التكليف والسعي وراء التأليف لإنقاذ المبادرة مجدداً، لا إنقاذ لبنان. وعلى هذا المنوال تسير سياسة الجميع، داخلاً وخارجاً. ما أراده ماكرون حفظ المستقبل الفرنسي هنا، بالإعلانات المتكررة عن المشاركة بإعمار المرفأ وغيرها من المشاريع. الهدف أبعد، وهو تحضير الأرضية لمرحلة مستقبلية، تتقارب فيها باريس مع إيران.
إلى الجنوب
في الرابع من آب 2020، ولحظة حصول التفجير، أخفى وقع الانفجار وهوله مسبباته وغاياته. في اللحظات الأولى، سرت القناعات في التصويب على إسرائيل واتهامها باستهداف شحنة أسلحة، أو احد مخازن الأسلحة التي كانت قد اتهمت حزب الله بتهريبها إلى لبنان عبر المرفأ. فترة بسيطة فقط، وأشيح النظر عن تلك الفرضية، فتحمّل “الإهمال” وحده المسؤولية، وتستمر الرواية في غياب إسرائيل وغياب الحزب، وغياب الدولة والآخرين. تأتي الذكرى السنوية، على وقع توترات متصاعدة في المنطقة ككل. حزب الله يراقب الواقع القائم: “تفجير بيروت حصل بسبب الإهمال والفساد”. وتلك معركة انتهى منها. حتى المتظاهرين تغاضوا عنه فأراحوه، واتجهوا إلى تحميل المسؤولية للسياسيين، في معركة رفع الحصانات التي لا بد منها. إسرائيل تغيب عن مشهد الاتهام أيضاً. يغيب الطرفان في بيروت، ويحضران في الجنوب، في توتر ليس جديداً ولن يكون الأخير. وفي عملية مرسومة ومعروفة، ترتبط بتطورات المنطقة، وجدية ارتباط لبنان بها، بعيداً عن كل دعائيات الحياد والنأي بالنفس. فهذه كلها لا يمكنها إخراج البلاد من دول الطوق أو دول المحور، ولا يمكنها إسقاط منطق “تلازم الجبهات ووحدتها”. لا، بل السياق أوضح، وما يجري يندرج في خانة تجسيد المعادلة. فعلى وقع التوتر الإيراني الغربي في الخليج، على خلفية استهداف سفينة نفط إسرائيلية، وفي ظل محاولة إسرائيل لحشد تأييد دولي ضد طهران، حصل اختطاف سفينة أخرى في سياق إيصال رسائل الردع الاستباقي الإيراني، بأن أي ردّ عسكري ضدها سيؤدي إلى إشعال الخليج وضرب أمن الملاحة البحرية.
لا يمكن للبنان أن يكون بعيداً عن التطورات التي تجري في المنطقة. صواريخ لا يمكن لأحد أن يتبناها، تؤكد أن جنوب لبنان جزء أساسي مما يجري في خليج عُمان. وإنها الترجمة العملانية الواضحة لمنطق توحيد الجبهات. إنها الرسائل التي تتقن القوى المختلفة تبادلها وإيصالها. وعلى الأرجح أنها لن تتوقف قبل الوصول لتقديم ما يلزم من تنازلات، تفترض الجلوس على طاولة التفاوض.
الحكومة المعلّقة
في ممارستها، تكاد فرنسا تخسر القوى السياسية بفعل العقوبات، وتخسر قوى المجتمع المدني، الذين ستجد نفسها كنوع من الاحتياط بعد، محاولات إستنباط حكومة جديدة من أركان النظام. اللاحضور الأميركي بحد ذاته مؤشر للموقف، والذي قد يُفسَّر بترك الأمور تتداعى وفق مندرجات سياق الانهيار، إما بسبب عدم الاهتمام بلبنان، أو تلزيمه للآخرين، وإما بانتظار اتضاح الصورة الأشمل والأوسع، أي حين يجد لبنان الوقت مناسباً للدخول في الصفقة الكبرى وتنفيذ ما هو مطلوب منه. الموقف الخليجي والعربي تالياً واضح ومعروف الاتجاهات. ووسط التركيز على حزب الله، يعمل الحزب على إبعاد نفسه عن مقدمة المشهد، ولا يقوم بأي رد فعل بعد أحداث خلدة. حتى صواريخ الجنوب لا يتبناها، ولا يترك مجالاً لتبنيها. يزيد من تعميق علاقته المنسوجة مع الفرنسيين تنسيقاً وتعاوناً، وصولاً إلى تسمية نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة، ولكن من دون أخذ موقف متقدم يضغط على رئيس الجمهورية لإقناعه بتسهيل مهمة التشكيل.
التشكيل معلّق. لا يمكن لرئيس الجمهورية وممثل المسيحيين الأقوى أن يوافق على توقيع مراسيم حكومة رئيسها سمّي من قبل المسلمين ورفض تسميته المسيحيون. وبعيداً عن هزالة التسريبات المتناقضة من هنا وهناك، حول الخلاف على الحقائب والحصص، تبقى المؤشرات أخطر مما هو قائم، سياسياً واقتصادياً ومالياً وشعبياً وحتى أمنياً، وصولاً إلى الفوضى الاجتماعية التي قد تشهدها البلاد. انكسار كل القواعد المنطقية في العمل السياسي أو الدولي لبنانياً ليس مصادفة. إنما يقود إلى خلاصة واحدة، وهي الفوضى، مع دعائيات التعاطف لعدم إعلان الموت.