لم يكن ينقص لبنان الذي بات كمَن يطفو على خشبةٍ في بحر هائج مقيَّداً بأثقال الانهيار الكبير، إلا أن يجد نفسه على خط التوتر الأعلى في المنطقة التي تبدو كأنها على شفير الحرب من بوابة معركة البحار والناقلات.
ففي حين كان لبنان مأخوذاً بمعاني «الهبّة الشعبية» التي رافقتْ الذكرى الأولى لـ «بيروتشيما»، الذي مازال «زّر» الانفجار أو التفجير الذي تسبَّب به سراً مرمّزاً بأبعاد إقليمية عابرة لعناصر الإهمال والتقصير الداخلييْن وتتصل بأصل شحنة نتيرات الأمونيوم واستخدامات أكثر من 2200 طن منها هُربت على مدى نحو 7 سنوات، وعلى وهج الاحتضان الدولي المتجدد للشعب اللبناني الذي عبّرت عنه نتائج المؤتمر الذي نظمتْه فرنسا والأمم المتحدة (الأربعاء) والذي كرّس أولوية «الحكومة الجديدة الآن وليس غداً»، أربك «التحرّشُ الصاروخي» عبر الحدود مع إسرائيل بيروت التي كانت تتهيأ لرصْد تأثيراتِ مؤتمر باريس و«عودة الروح» إلى الشارع على المسار الحكومي تخفيفاً من الشروط المانعة للتأليف أو تَمَسُّكاً بسقوفها العالية حتى آخِر حَجَرٍ في بنيان الدولة وربما… النظام.
ورغم أن الصواريخ الثلاثة التي أُطلقت على اسرائيل لم تكن الأولى في سجلّ «الرسائل اللقيطة» التي تُوجَّه بـ «بريد النار» عبر «منصة» جنوب لبنان، إلا أن عملية الأربعاء سرعان ما اكتسبت أبعاداً لم يَعُد ممكناً عزْلها، سواء في خلفية ما حصل أو في تداعياته، عن اللحظة الإقليمية البالغة التوتر في المنطقة، وهو ما عبّرت عنه الوقائع الآتية:
* شنّ الطيران الإسرائيلي غارتين في ساعات الفجر الأولى من أمس، أعلنت تل ابيب انهما استهدفتا «مناطق في لبنان أطلقت منها صواريخ ظهر الأربعاء على كريات شمونة، والبنى التحتية للإرهاب»، فيما أفادت وسائل إعلام لبنانية أنهما طاولتا منطقة (غير مأهولة) الدمشقية في خراج بلدة المحمودية (بين أقضية جزين ومرجعيون والنبطية).
واكتسب هذا العدوان الجوي دلالاته كونه الأول من نوعه منذ 2006 على منطقة لبنانية جنوبية، بعدما كانت اسرائيل تكتفي بإزاء «الصواريخ الطائشة» أو عمليةٍ يتبناها «حزب الله» كردٍّ على فعلٍ معيَّن، بقصفٍ موْضعي لقرى أمامية وهو ما قامت به بعيد إطلاق الصواريخ الثلاثة أول من أمس قبل أن تستخدم سلاح الطيران الحربي مهددة بأن «تستمرّ هجمات الجيش وستزداد بمواجهة المحاولات الإرهابية ضد إسرائيل».
* تَعاطي أوساط متابعة مع هذا المعطى «فوق العادي» على أنه في سياق تعديلٍ «سبّاق» لقواعد الاشتباك السائدة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية و«تسديد» رسالة بأن تل أبيب جاهزة على «كل الجبهات» بحال اختار «محور الممانعة» تفعيل «وحدة الجبهات» بإزاء الردّ، الذي تُراكِم اسرائيل عناصره الديبلوماسية والميدانية، على إيران على خلفية تعرُّض سفينة «ميرسر ستريت» (التابعة لشركة إسرائيلية) لهجوم في بحر العرب بطائرة مسيّرة ما أسفر عن مقتل اثنين من طاقمها (بريطاني وروماني) ثم محاولة الاستيلاء على سفينة «أسفلت برنسيس».
ولم يكن عابراً أن تتزامن الاندفاعةُ الجويةُ على الجبهة مع لبنان مع قرْع تل ابيب «طبول» الجهوزية لمهاجمة إيران، وسط حرص وزير الدفاع بيني غانتس على إحداث ربْط بالغ الخطورة بين الهجوم على السفينة في بحر عُمان والقذائف الصاروخية من لبنان اللذين اعتبرهما بمثابة «تحدّ من إيران لإسرائيل».
وإذ اتجهتْ الأنظارُ الى كيفية ردّ «حزب الله» على هذا التطور، وسط رصْدٍ لإطلالة أمينه العام السيد حسن نصرالله واقتناعٍ بأن أي خيارٍ للحزب سيبقى محكوماً بمعادلة «نختار زمان الردّ ومكانه ولن يكون بالتوقيت الذي يحدّده العدو»، فإن لبنان الرسمي بدا مرة جديدة كـ «عدّادٍ» للاعتداءات الاسرائيلية التي كرّر التحرك حيالها شاكياً تل ابيب لدى مجلس الأمن، ومستطلعاً نتائج «التحقيقات (عبر الجيش) المتعلقة بعملية اطلاق صواريخ من الأراضي اللبنانية التي حصلت الاربعاء والإجراءات الواجب اتخاذها في هذا الشأن» كما جاء على لسان رئيس الجمهورية ميشال عون.
وقد دان عون «الغارات الإسرائيلية التي تعرّضت لها قرى وبلدات جنوبية»، واصفاً إياها بأنّها «انتهاك فاضح وخطير لقرار مجلس الأمن 1701، وتهديد مباشر للأمن والاستقرار في الجنوب»، ومعتبراً «ان استخدام إسرائيل لسلاحها الجوي في استهداف قرى لبنانية هو الأول من نوعه منذ 2006، ما يؤشر إلى وجود نياتٍ عدوانيةٍ تصعيدية تتزامن مع التهديدات المتواصلة ضد لبنان وسيادته». وقال «إن تقديم شكوى الى الأمم المتحدة خطوة لابد منها لردع إسرائيل عن استمرار اعتداءاتها».
وجاء التوترُ جنوباً والمخاوفُ من وضْع لبنان «في فوهة» أي حربٍ في المنطقة، على وقع تَجَدًّد مساعي تذليل العقبات القديمة – الجديدة التي اصطدم بها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي منذ اختياره لتولي هذه المهمة قبل 11 يوماً، والتي تظهّر الاثنين الماضي أنها تتمحور حول توزيع الحقائب السيادية.
وبعدما كان ميقاتي عَكَسَ عقب لقاء الاثنين و«بلا قفازات» المناخَ السلبي الذي يَحْكم مسارَ التأليف معتبراً أن المساس بالتوزيع الطائفي للوزارات السيادية (فيها المال للشيعة والداخلية للسنّة والخارجية لماروني والدفاع لأرثوذكسي)، هو بمثابة تحريك «وكر دبابير»، حاول بعد لقائه عون أمس إشاعة جوّ أقلّ سلبية بحديثه عن «تقدم بطيء» حصل من دون أن يفصح عن مرتكزاته، وسط اعتبار أوساط مطلعة أن رئيس الجمهورية والرئيس المكلف لم يكن بإمكانهما إلا احتواء انزلاق عملية التشكيل علناً نحو الأفق المسدود غداة نجاح مؤتمر دعم الشعب اللبناني في جمْع نحو 370 مليون دولار كمساعدات إنسانية وتأكيد المشاركين أولوية «تشكيل حكومة تطبّق الإصلاحات كمدخل لأي دعم مالي بنيوي، وتطلق سريعاً المفاوضات بنية طيبة مع صندوق النقد الدولي وتحضّر للانتخابات (البلدية والنيابية) في 2022».
على أن هذه الأوساط رأتْ أن أي تفكيك لـ «ألغام» مسار التأليف ليس سهلاً وسط اعتقادٍ أن ما تردّد عن استعداد رئيس البرلمان نبيه بري للتخلي عن حقيبة المال قد يكون بحاجة لمزيد من «التدقيق»، ناهيك عن السؤال الكبير حول هل تبدّلت المقاربات للملف الحكومي وحساباته التي غالباً ما تم ربْطها – بفصولها الممتدة منذ نحو عام – بمسار النووي الإيراني وصولاً إلى اعتبارات فريق عون خصوصاً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لجهة تعزيز موْقعه في التركيبة الحكومية، وفق ما يتّهمه خصومه، واستطراداً في «معركة» الانتخابات النيابية المقبلة التي ستشكّل «الممرّ» لرئاسية 2022، مع احتمال أن تتحوّل الحكومة العتيدة «رئاسية» بحال عدم حصول الاستحقاق النيابي وصحّتْ التوقعات بحصول شغور بعد انتهاء عهد عون (اكتوبر 2022).
ولاحظتْ الأوساطُ أن ميقاتي نفسه عبّر أمس عما يشبه «التشاؤل» معلناً «أحرزتُ والرئيس عون تقدماً في موضوع تأليف الحكومة حتى ولو كان هذا التقدم بطيئاً».
وأضاف: «أكدتُ للرئيس عون، بعد تشديد المجتمع الدولي الأربعاء على ضرورة تأليف الحكومة ونحن جاهزون لمساعدتكم، ضرورة تشكيل الحكومة وإلا نرتكب إثماً إذا لم نسرّع بالتأليف ونريد حكومة تكون رافعة لا نقطة إحباط وأتمنى من اللبنانيين ألا نحترف التشاؤم».
وأشار إلى أن «لا حقيبة مرتبطة بطائفة أو مذهب دستورياً ولكن قلتُ (حول الحقائب السيادية) ليس لدينا وقت للدخول في مشاكل جانبية والقول إننا نريد أن نعطي هذه الحقيبة لطائفة أو أخرى فلنذهب ونؤلف حكومة».
وأضاف: «دستورياً لا مهلة لرئيس الوزراء المكلف ولكن قلتُ ما قلتُه سابقاً (حول عدم وجود مهلة مفتوحة للتأليف) من حسّي الوطني الذي يقضي انه(إذا في حدا غيري بيحب يحمل هيدا الحِمْل يتفضّل). ولا ألتزم بمهلة بل أسعى أن تكون هناك حكومة وقبلتُ بالتكليف كي أؤلّف و(ما جبْت سيرة الاعتذار) ولكن إذا أصبح الطريق مسدوداً أمامي لإيجاد فريق عمل متجانس للنهضة فسأخاطب اللبنانيين ولكن لم أرَ أي مشكلة حتى الآن».