جاء في “العرب” اللندنية:
يترقب المجتمع الدولي ما إذا كان تكليف نجيب ميقاتي بتأليف حكومة لبنانية سيحدث اختراقا بعد فشل سلفه سعد الحريري في المهمة، فيما ينوّه محللون بأن ميقاتي يتبنى توجهات الحريري، ما يضعه في حالة تصادم مع الرئيس ميشال عون الذي بات يفرض شروطا مجحفة، من بينها مطالبته بوزارة العدل التي تعد كنزا ثمينا لكل من يرغب في التهرّب من المحاسبة في قضية انفجار مرفأ بيروت والفساد السياسي.
ووفقا لمجلة فوربس، يُعد ميقاتي من أغنى الرجال في لبنان بثروة تقدر بنحو 2.7 مليار دولار.
لكن هذه الثروة تسلط الضوء على اتساع عدم المساواة، والخلل السياسي، في بلد يجد فيه معظم الناس صعوبة في تخيّل كيف سيكسبون دخلهم مرة أخرى. ولا يعتقد أحد أن قيادة ميقاتي مستدامة حتى على المدى المتوسط. ومن سوء حظ لبنان أن طبقته السياسية والعديد من داعميه الدوليين يعتقدون أنه يستحق الدعم رغم ذلك.
وينظر معظم اللبنانيين إلى ميقاتي على أنه رمز لنظام قديم وفاسد. واتُهم في أكتوبر 2019، الشهر الذي اندلعت فيه الاحتجاجات في لبنان، بالفساد بسبب التربّح غير القانوني من قروض الإسكان المخصصة للفئات ذات الدخل المنخفض، لكن القضية دُفنت. وما يعتبره البعض الأكثر إهانة لمعاناة اللبنانيين هو حقيقة أن ميقاتي شغل في السابق منصب رئيس الوزراء عندما رست سفينة
محملة بالآلاف من الأطنان من نترات الأمونيوم في ميناء بيروت. وعاد الآن إلى السلطة بعد عام من اشتعال النيران في المتفجرات التي تم تخزينها بشكل غير آمن، وانفجرت، وألحقت أضرارا قاتلة ببعض أكثر أجزاء المدينة شهرة.
يقول النشطاء إنه بيدق في يد الطبقة السياسية، ورئيس وزراء مؤقت مكلف بالحفاظ على الوضع الراهن. لكن المتفائلين يعتقدون أنه قد يتوصل، بصفته رجل أعمال متمرس، إلى التسويات الصحيحة ويجد طريقة لإبقاء البلاد واقفة على قدميها حتى انتخابات العام المقبل. ومن الواضح أن داعمي لبنان في الغرب يأملون أنه بفضل ميقاتي، سيمكن تجنب انهيار النظام السياسي اللبناني في الوقت الحالي.
وكانت السياسة اللبنانية في حالة ركود مختل منذ أن اهتزت بيروت بانفجار قوي إلى درجة أنه قورن بكارثة تشيرنوبيل. وقُتل نحو 200 من الأبرياء، وأصيب الآلاف، وشُرّد مئات الآلاف بسبب كارثة كان من الممكن تفاديها. وبعد أسبوع، أجبِر حسان دياب على الاستقالة من رئاسة الوزراء. لكنه بقي كرئيس وزراء تصريف أعمال، حيث فشل مصطفى أديب وسعد الحريري في تشكيل حكومة.
وعقد الحريري 18 اجتماعا مع الرئيس اللبناني ميشال عون على مدى عشرة أشهر تقريبا. وكانت وزارته مقسمة بالتساوي بين طوائف مختلفة. وقال خبراء إن عون أراد المزيد من المكاتب للمسيحيين لتسهيل عودة صهره جبران باسيل إلى السياسة.
وباسيل هو وزير الخارجية الأسبق، الذي ربما يكون السياسي الأكثر احتقارا في لبنان، وقد عاقبته الولايات المتحدة بموجب قانون ماغنيتسكي، الذي صُمم لمكافحة الفساد العالمي.
استقال الحريري. ويواجه ميقاتي الآن قيودا مماثلة، إذ يدور الخلاف الرئيسي حول وزارة الداخلية والبلديات، التي ستنظم الانتخابات القادمة ويديرها حاليا مسلم سني. ولن يسلم ميقاتي، وهو سني أيضا، الوزارة المهمة للموارنة لأن السيطرة على هذه الوزارة قد تحدث فرقا كبيرا في الاقتراع. وقال المحلل السياسي اللبناني سامي نادر “لقد شغل السنة وزارة الداخلية منذ 2014، فقط لأن الشيعة يشغلون المالية، وهي أهم وزارة”.
ولا ينصّ الدستور على وجوب أن يكون التوزيع طائفيا، لكن هكذا هو النظام في لبنان. فكل حزب يريد وزارة المالية أو وزارة الداخلية المسؤولة عن إجراء الانتخابات. وهذا ما يثير الشكوك حول مدى حرية ونزاهة الانتخابات.
وأكد مصدر لمجلة فورين بوليسي أن عون يريد أيضا الإبقاء على وزارة العدل للمسيحيين الموارنة. وقال خبراء لبنانيون طلبوا عدم ذكر أسمائهم، إنه في الوقت الذي تدعو فيه البلاد إلى إجراء تحقيق دولي في انفجار بيروت ومحاولة محاسبة النخب، فإن السيطرة على وزارة العدل يمكن أن تكون الأهم لأي شخص يأمل في تجنب الملاحقة القضائية.
ورفض ميقاتي اقتراح عون بالتناوب على الوزارات الرئيسية (الداخلية، والمالية، والدفاع، والعدل، والشؤون الخارجية) وعرض الإبقاء على نفس التوزيع الطائفي والمذهبي الموجود حاليا في حكومة تصريف الأعمال بدلا من ذلك.
وكان ميقاتي يتوقع أن يتمكن من تشكيل حكومة بحلول الرابع من آب، لكنه أعرب عن خيبة أمله بعد مفاوضاته الأخيرة مع الرئيس عون.
وقال “انطلقت في مهمتي من مبدأ الحفاظ على نفس التوزيع الطائفي والمذهبي الذي اعتمدته الحكومة السابقة لتجنب أي خلاف جديد. ولم أنطلق، من مبدأ طائفي أو مذهبي، لأن اللبناني لم يعد يريد أن يسمع لا بمحاصصة أو بطوائف أو بدستور، بل يريد حكومة تشكل رافعة له، ولا تتسبب بإحباط إضافي له… أما في ما يتعلق بالحكومة، فبكل صراحة كنت أتمنى أن تكون وتيرة تشكيل الحكومة أسرع”.
وأخبر أحد المقربين من رئيس الوزراء المكلف مجلة فورين بوليسي بأن ميقاتي قد يستقيل أيضا إذا رفض الرئيس الموافقة على تشكيلته الوزارية.
ورجّح الصديق المقرب أنه “في ظل حكومة تصريف الأعمال، المالية مع الشيعة، والداخلية مع السنة، والشؤون الخارجية والعدل مع الموارنة. سيبقي ميقاتي الأمر على هذا النحو. إذا وافق الرئيس عون، ستكون لدينا حكومة الجمعة أو الاثنين كحد أقصى. إذا لم يفعل، سيستقيل ميقاتي بحلول أوائل الأسبوع المقبل”.
ويكشف الخلاف حول الحقائب الوزارية عن خطابين مختلفين للغاية في البلاد حول مستقبلها السياسي. أحدهما يمثله الناشطون والمتظاهرون الذين انضموا إلى الانتفاضة، وتروج الطبقة السياسية للآخر.
ويقول المتظاهرون إنهم لم يعودوا يريدون نظاما قائما على أساس طائفي لتقاسم السلطة يسيء مختلف القادة الطائفيين وأمراء الحرب استخدامه على نطاق واسع لتعزيز قبضتهم على السلطة. ويريدون إنهاء المحسوبية، ورؤية عصر جديد من مؤسسات الرقابة المستقلة، وطبقة تكنوقراطية جديدة في المناصب الحكومية.
لكن الطبقة السياسية الحالية تدرك أن مثل هذه الإصلاحات السياسية ستكون قاتلة لعهدها. وتأمل في إثارة انقسامات طائفية عميقة الجذور للعودة إلى السلطة عن طريق الانتخابات. وهذا هو سبب احتفاظ كل حزب بحصة من الوزارات بينما يتفاوض البعض للحصول على المزيد نيابة عن قواعدهم الطائفية.
وقال روي ديب، وهو ناشط لبناني شاب إنه “لطالما استخدمت الطبقة السياسية، قبل الحرب الأهلية وبعدها، نفس الخطاب ويقولون إنهم يحمون شعبهم. لكنهم خلقوا الخوف فقط بين المجموعات المختلفة. هل الناس منقسمون على خطوط طائفية حقا؟ لا يمكننا معرفة ذلك إلا في الانتخابات القادمة، بشرط أن تكون حرة ونزيهة. أعتقد أن شيئا ما تغير في ثورة أكتوبر، وتغيرت طريقة تفكير الناس، وظهرت بوادر التغيير الأولى في انتخابات الجامعات وانتخابات نقابة المحامين والمهندسين. فقد كان معظم الفائزين مستقلين”.
ومنذ فوزه بأغلبية الأصوات ضمن مشاورات برلمانية لتكليفه بتشكيل الحكومة، قال ميقاتي “ما عندي عصا سحري وما بقدر أعمل العجائب… أنا مطمئن صار لي فترة عم أدرس الموضوع… وعندي الضمانات الخارجية المطلوبة”، وأكد أنه سيلتزم بالخطة الفرنسية لتشكيل حكومة اختصاصيين تنفذ الإصلاحات اللازمة لجذب مساعدات أجنبية.
ثروة ميقاتي تسلط الضوء على اتساع عدم المساواة والخلل السياسي في بلد يجد فيه معظم الناس صعوبة في تخيّل كيف سيكسبون دخلهم مرة أخرى
ووصف المحلل اللبناني في السياسة الاقتصادية ومدير مؤسسة “تراينغل” البحثية نزار غانم، تعيين ميقاتي بأنه “يهدف ببساطة إلى كسب الوقت للطبقة السياسية بأكملها”، التي تدرك أن استقرارها يعتمد على جهات فاعلة إقليمية أخرى. وغسلت المملكة العربية السعودية يديها من لبنان عندما أثبتت القيادة المحلية السنية أنها غير قادرة على مواجهة حزب الله المدعوم من إيران. وفاقم سحب الدعم المالي والدبلوماسي السعودي المأزق السياسي في البلاد من خلال وضع قادة السنة في لبنان في الخلف في المفاوضات السياسية وتشجيع حلفاء حزب الله المسيحيين.
وخلال الشهر الماضي، التقى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مع نظيرهما السعودي في الرياض لتشجيع المملكة على إعادة الارتباط بلبنان من خلال تقديم المساعدات الإنسانية. وقال مصدر دبلوماسي فرنسي لمجلة فورين بوليسي “إن الرسالة الموجهة للسعوديين هي ‘عدم نسيان لبنان’ وأنه من الأفضل المشاركة ثم المخاطرة بعدم الجدوى. فهناك أزمة ولديك دور تلعبه. هناك الكثير من الأشياء التي ينبغي عملها”.
وهكذا، تظل المعركة من أجل مستقبل لبنان عالقة بين فكرتين: سياسة عشائرية من الماضي تكون فيها الولاءات طائفية سلطة القرار فيها بيد الأقوياء، وأخرى يكون اللبنانيون فيها مواطنين أولا ثمّ شيعة وسنّة ومسيحيين ثانيا. ويَعِد ميقاتي، في الوقت الحالي، بحكومة تكنوقراطية، وانتخابات حرة، وتحقيق دولي في الانفجار، ووضع حدّ للحصانة السياسية لأي من السياسيين الذين تم استدعاؤهم، ومحادثات مع صندوق النقد الدولي. لكن الكثيرين لا يتوقعون رؤية ذلك.