كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
لن يَستثني “لهيب” أزمة المحروقات أي قطاع. غاز “البوتان” و”البروبان” اللذان يستعملان في المنازل، وعلى صعيد واسع في آلاف الأفران الصغيرة والمعامل والمطاعم عرضة للإنقطاع في الأيام القليلة المقبلة.
مثله مثل “أشقائه” من البنزين والمازوت، إبتلى الغاز المسال بسعر “مزاجي” غير حقيقي. فمن بعد أن وصل دعم 90 في المئة من سعر استيراد المحروقات على سعر صرف 1515 ليرة، إلى حائط مسدود، إنتقل “المركزي” إلى الدعم على أساس سعر 3900 ليرة في نهاية حزيران الماضي، فيما سعر السوق الحقيقي يتجاوز 20 ألفاً. هذه الفجوة المقدرة بأكثر من 16 ألف ليرة للدولار الواحد، لم يعد باستطاعة “المركزي” تغطيتها نتيجة فقدانه للنقد الصعب. ومع استمرار السلطة السياسية في المماطلة برفع الدعم عن المحروقات والإنتقال إلى دعم المواطنين المباشر كما أقر البرلمان، عمد مصرف لبنان إلى التقنين في فتح الإعتمادات. فكانت النتيجة فقدان المشتقات النفطية من الأسواق وتحولها إلى سوق سوداء، من يدفع أكثر يحصل عليها، ويُدفّع المواطنين وأصحاب المصالح أضعافاً مضاعفة قيمتها الحقيقية، لتصبح انعكاسات هذه السياسة أخطر على الإقتصاد والمجتمع والمواطنين، الذين يتحولون إلى رهائن المصالح السياسية والفئوية الضيقة.
الشح يطال الغاز
قطاع الغاز الذي ظل حتى الأمس القريب محيداً عن أزمة المحروقات نظراً لحجمه الصغير، لحقته “لعنة” عدم فتح الإعتمادات، وتوزيعها بحسب المحسوبيات. ونظراً إلى كون المخزون الموجود لا يكفي لأكثر من أسبوع، فان أزمة غاز بدأت تلوح في الأفق وتنعكس انقطاعاً لهذه المادة في الكثير من الأسواق والمحلات وتحولها كالمازوت إلى سوق سوداء. الأمر الذي دفع برئيس نقابة العاملين والموزعين في قطاع الغاز فريد زينون إلى مناشدة المسؤولين عموماً، ومصرف لبنان خصوصاً، فتح الإعتمادات سريعاً وعدم جر قطاع الغاز إلى حفرة المازوت والبنزين. “أمّا إن كانت هناك نية بعدم فتح الإعتمادات، فليصارح المسؤولون المواطنين بحقيقة الوضع، وليضعوا آلية لرفع الدعم لكي يتمكن المستهلكون من تأمين أبسط حاجاتهم ومتطلباتهم في ظل هذه الأزمة. ذلك أن الغاز مادة أساسية لتحضير الطعام في المنازل، وتعتمد عليه آلاف المؤسسات الصناعية والخدماتية الإستشفائية على صعيد الوطن. وفقدانه يعطل الحياة اليومية”، كما يقول.
تعقد الأزمة
بالمقارنة مع استيراد نحو 4 ملايين طن من مادة المازوت في العام 2020 بكلفة تخطت 1.6 مليار دولار، استورد لبنان ما يقارب 200 ألف طن فقط من الغاز المسال، بفئتيه المنزلي والصناعي، وبقيمة لم تتجاوز 200 مليون دولار. إلا أن هذا الحجم المتواضع لهذا القطاع “لا يعكس الأهمية الكبيرة للغاز في الإقتصاد بشكل عام، وفي الحياة اليومية للمواطنين بشكل خاص”، بحسب زينون، و”على عكس المادتين الأخيرتين ليس بمقدور المواطن او المؤسسات تخزين الغاز في غالونات أو براميل. وأقصى ما يمكن أن يمتلكه منزل هو قارورتان أو ثلاث من الغاز من أصل حوالى 7 ملايين قارورة بزنة 10 و35 كلغم موجودة بين المنازل والمؤسسات الانتاجية والأفران والمعامل والمستشفيات”. وبحسب زينون فان “خطورة انقطاع الغاز توازي فقدان مادة المازوت والبنزين، إن لم تكن أكبر. فالمواطن يستطيع أن يحد من تنقلاته لكنه لا يستطيع التوقف عن تحضير الطعام في المنزل. هذا بالإضافة إلى أن هناك الكثير من القطاعات الإنتاجية والصناعية تعتمد على غاز البروبان، وفقدانه يعني توقفها كلياً”.
وبرأي زينون فانه “حتى لو فتحت الإعتمادات لاستيراد الغاز فان المشكلة لن تحل إذا بقيت مادة المازوت مقطوعة. فشاحنات نقل الغاز تعمل على المازوت وفي ظل العجز عن تأمين المادة أو الإضطرار إلى شرائها بسعر 300 الف ليرة للصفيحة، فان عمل الموزعين والشركات سيتعطل. ولن يعود هناك من غاز إلا في محطات التعبئة”. وعن سعر القارورة في حال رفع الدعم كلياً يلفت زينون إلى “ان السعر مرتبط بسعر صرف الدولار. لكن إذا اعتبرنا سعر الصرف بقي على 20 ألف ليرة، فان سعر القارورة لن يقل عن 150 ألف ليرة. الأمر الذي سيرفع مصروف الأسر التي تستهلك بين قارورة وإثنتين في الشهر الواحد، كما سيزيد كلفة الانتاج على المؤسسات والمعامل”. هذا وسيؤدي تعطل القطاع إلى إلحاق الأذى بنحو 3 آلاف عامل ونحو 2500 موزع وعدد مواز للمساعدين والمعاونين.
تعمّد الفشل
أزمة المحروقات التي تذل المواطنين ما هي إلا النتيجة الطبيعية لـ”نقل ملف الدعم من مكانه الطبيعي في الحكومة إلى مكانه غير الطبيعي في مصرف لبنان”، يقول رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان مارون الخولي. فـ”من المستحيل إيكال إدارة ملف إقتصادي وإجتماعي وإنساني بهذه الضخامة والدقة إلى مصرفيين بخلفيات حسابية فقط، وإنتظار نتيجة مغايرة. وعدا عن طريقة الحساب المتعلقة بالربح والخسارة، فان فشل الحكومة وتخليها عن الملف، حتى قبل استقالتها وتحولها إلى تصريف الأعمال مع إطلاق يد المركزي، جعل الأخير يستنسب في فتح الإعتمادات. فلم يعد هناك من معيار موحد لكيفية فتح الإعتمادات وتوزيعها بين القطاعات والمستوردين، مع غياب تام لقواعد الوضوح والشفافية والعدل التي يجب أن تحكم مثل هذه العملية.
هذا الواقع المشوه “لم يكن دعماً”، بحسب الخولي، “إنما استمرار لسياسة تثبيت سعر الصرف على سلع محددة بهدف كسب الوقت وتأخير الإنفجار”. من هنا لا يمكن الإنتقال من سياسة التثبيت إلى سياسة الدعم من دون المرور بآلية واضحة، عكس التي انتهجت منذ بداية الأزمة. وعلى الحكومة الجديدة استعادة ملف الدعم من مصرف لبنان، وإعادة هيكلته بما يتفق بشكل حقيقي مع مصالح المواطنين وحاجاتهم. خصوصاً في المرحلة الأولى التي تتطلب إدارة الأزمة قبل البدء بالمعالجة. والحلول التقنية لذلك كثيرة ولا تتطلب أكثر من قرار سياسي للبدء بالتطبيق والتنفيذ سواء كان في ملف الدواء أو المحروقات أو غيرهما من السلع والمنتجات. فما جرى في الملف المعروف بالدعم يرقى إلى مستوى الجريمة التي تتطلب معاقبة ومحاسبة المقصرين من وزراء ومسؤولين. فكيف يعقل ان يمر موت مواطنين مرور الكرام لانه لا يوجد دواء، أو إذلالهم لأشهر على المحطات وأمام الصيدليات.
استمرار الدعم رغم فشله وتكبيده الإقتصاد والأفراد خسائر فادحة هو “أمر مقصود من قبل السلطة والمسؤولين لافادة بعض الفئات على حساب الأخرى”، برأي الخولي. و”عدا عن الإحتكار وتحقيق الأرباح والإستفادة المادية المباشرة، فان الدعم هو باب للإستزلام والمحافظة على الشعبية. حيث تحول عمل بعض النواب إلى وسطاء لتأمين المازوت والخدمات لجمهورهم. وكلما اشتدت الأزمات كلما اعادت هذه الطبقة السياسية تكوين نفسها من خلال رهن جمهورها بالخدمات التي تعمل على تأمينها لهم”.
أيام قليلة ونكون أمام مشكلة من اثنتين: إما فقدان الغاز نتيجة عدم فتح الإعتمادات وانقطاع المازوت، وإما رفع الدعم عنه من دون وجود آلية بديلة لتأمين متطلبات الأسر والأفراد. وفي الحالتين يستحق السؤال: هل يشعل الغاز غضب المواطنين وضمائر المسؤولين بعدما فشل كل من المازوت والبنزين؟ أم يكون مادة جديدة للتندر والوقوف في الطوابير؟
ومساءً أعلنت المديرية العامة للنفط انها بتوجيهات وزير الطاقة والمياه؛ «قررت فتح منشأتي النفط في الزهراني وطرابلس استثنائياً اليوم ليتم تسليم مادة المازوت للمستشفيات من دون التذرع بأنه يوم عطلة، فالأمر لا يحتمل أي تأجيل لأي سبب كان، ومن العار أن نصل إلى هذا الدرك من التخلف».