كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:
اختصر الأسبوع الفائت، بدقة، المشهد اللبناني الراهن بمآسيه، تناقضاته، فجوره وتضليله، من فتنة خلدة إلى ذكرى سنوية كارثة مرفأ بيروت والمؤتمر الدولي الثالث لدعم لبنان في فرنسا، إلى مسرحية الصواريخ وما تلاها.. وصولًا لإخبار الأمين العام إيانا بأنه حزين، وعلينا بالتالي أن نخاف، واتهامه المحقق العدلي في جريمة المرفأ طارق بيطار بالتسييس.
وما بين هذه المحطات جميعا، يستمر مسلسل تشكيل الحكومة المعلقة على مطالب رئيس الجمهورية الآخذة بالتضخم، في بلد يكافح الموت قهرًا، وحرقًا، وجوعًا، وظلمًا وظلامًا.. لكن فخامته، القوي جداً، يريد وزارة الداخلية (لمسيحي، أليس هو حامي حقوق المسيحيين؟)، مع تشكيلة دسمة من الوزارات تضمن للصهر القدرة على التعطيل، وهندسة الانتخابات النيابية (إن حصلت)، وأشياء أخرى تداعب خياله الفضفاض.
المناورة من القعر
المؤسف أن المكابرة والمغامرة والمناورة بدستور لبنان واستقراره وأمنه تحصل في لحظة وصل فيها البلد إلى قعر القعر.. حيث لا كهرباء، ولا دواء، ولا محروقات، ولا مال، ولا سلع، ولا خدمات، وحيث السوق السوداء والنوايا السوداء هي الحاكمة، ومن يقامر بالبلاد وسلمها الداخلي والاجتماعي والحياتي لا يكترث أصلًا لهذه الأشياء!
في الطريق إلى اعتذار ثالث رئيس مكلف تشكيل الحكومة منذ استقالة حكومة دياب قبل سنة، تشير المعلومات المتقاطعة إلى أن ما يثار حول إشكالية وزارتي «الداخلية» و«العدل» هو جزء من المشكلة، لا كلها، فالرئيس عون، بحسب عارفين، يريد – إلى جانب تغيير الدستور بالممارسة وإرساء هرطقة المشاركة بتشكيل الحكومة واقتطاع جزء منها له !!!- يريد من الحكومة العتيدة الالتزام مسبقًا بأجندة مسمومة، تخدم طموحات وتكتيكات وحروب إلغاء الصهر العظيم. هو يريد من الحكومة أن تُقيل حاكم مصرف لبنان (ولا يوجد لبنانيّ يسمح لنفسه بالدفاع عنه وعن سياساته وهندساته، لكن قبل إزاحته ينبغي الضغط عليه فضح أسرار الصندوق الأسود)، وقائد الجيش العماد جوزيف عون، ومدعي عام التمييز غسان عويدات ورئيس دائرة المناقصات جان العليّة، وعلى هذا الأصل يمكن تفريع مطالب وغايات أخرى ذات صلة. لا يريد هذا العهد الميمون الانتهاء قبل أن ينهي لبنان، أو ما تبقى منه كرمى لعيون الصهر.
الحزب المحاصر في نفق أفعاله
في الطريق أيضًا، لا يمكن تجاوز «الحصار» الذي أدخل حزب الله نفسه به. نفق خطير، ومسدود ولا يريد الاقتناع بأن سَرديته التي سوّقها لنفسه، وعن نفسه، ولنفسه منذ العام ٢٠٠٦، تاريخ وراثة الهيمنة السورية، قد انتهت، وأنه باتَ مجردًا من أشياء كثيرة بعدما أدخل البلد في الفوضى والعزلة والدمار، وأوصله، مع العهد، إلى مشارف التقسيم واستحضار حرب أهلية جديدة.
لماذا يقول الأمين العام للحزب، مستبقاً نتائج التحقيق التي ينتظرها ملايين اللبنانيين والأحرار حول العالم، إن التحقيق في قضية المرفأ مسيّس، ويخضع للاستنسابية، ولماذا يجهد لتبرير ما شاهده اللبنانيون، بعفويتهم وفطرتهم ووطنيتهم، في بلدة شويا، وقبله في خلدة؟ إن استجرار أيّ حرب، أو اشتباك، مع إسرائيل، سواء أكان هدفه صرف الأنظار عن ملفات الداخل الضاغطة للهروب إلى الأمام، أو خدمة لحسابات إيران مع واشنطن، سيدفع لبنان واللبنانيون، والحزب طبعًا، ثمنه مزيداً من الفوضى والانهيار، ويرتب أعباء لا قدرة لأحد عليها. للحزب أن يفاخر بأنه استطاع ترويض الطبقة السياسية ما بين منتفع وصامت، من خلال مقاسمتها الفساد، وله أن يقدّر بأن لا مؤسسات حيوية أو استراتيجية باقية يمكن لإسرائيل استهدافها، لكن مشكلته الراهنة هي مع غالبية الشعب اللبناني، الذين ما عادوا قادرين على هضم مزيد من المكابرات والأساطير، ولن يغطوا أي مغامرة تذهب بالقليل الباقي من قدرة التحمل لديهم، فالأمور تغيرت.
الرياض للبنانيين: الحل بأيديكم!
البارز في المواقف، ولعله الأبرز، في أحداث الأسبوع الفائت، هو الموقف السعودي خلال مؤتمر «دعم لبنان وشعبه» الذي نظمته فرنسا بمشاركة دولية وعربية ومثّل جرعة دعم لبلد يصارع الهلاك، وخلص إلى نتائج سياسية ضعيفة، ومثلها حجم المساعدات التي لم تتعد الـ370 مليون دولار، فيما سجّل إصرار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الغريب، وغير المبرر، على إعادة إحياء المنظومة السياسية الفاسدة في لبنان، بعدما عرّاها الشعب وكشف فجورها وإجرامها.
الموقف السعودي بدا لأسباب عديدة متقدماً على المجتمع الدولي، والأهم أنه عكس موقفاً خليجياً موحداً للدول التي شاركت في المؤتمر (الإمارات، الكويت وقطر)، فوزير خارجية المملكة الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله، اختصر أمام الأسرة الدولية الأزمة في لبنان، وأعاد تصويب المشهد، وأكد على المخرج – الحل الذي لا مفرّ منه. وهو نبّه إلى أن «إصرار حزب الله على فرض هيمنته على الدولة اللبنانية هو السبب الرئيسي لمشاكل لبنان»، وحثّ الأطراف على «تأدية واجبهم الوطني لمواجهة هذا السلوك»، وأكد أن «أي مساعدة تقدم إلى الحكومة الحالية، أو المستقبلية، تعتمد على قيامها بإصلاحات جادة وملموسة، مع ضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، وتجنب أي آلية تمكّن الفاسدين من السيطرة على مصير لبنان»، رابطًا بين مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات ومساعدة لبنان.
هكذا حدّد الموقف السعودي المشكلة بدقة؛ لا شيء يضمن بأن المنظومة المتحكمة تمتلك الشفافية اللازمة لاستلام مساعدات دولية وإيصالها إلى مستحقيها، ولا أحد يثق بأنها ستكافح الفساد وهي في أساسه، أو أنها ستنفذ ما وعدت به عشرات المرات من إصلاحات!
العهد انتهى .. ماذا ينتظر العالم؟
إذا، المنظومة العارية، والمتهمة، والمجرّدة من الشرعية الأخلاقية والشعبية، تراهن على تناقضات الحسابات الدولية، وانهماك إيران في تعزيز أوراق تفاوضها لإعادة انتاج نفسها، وفي ذلك حافز للثورة لتأكيد جملة ثوابت تلاقي الموقف العربي الداعم، وهي:
أن العهد الذي لم يقدم سوى الشعبويات والكيديات، النحس، العتمة، الفشل، تخطي الدستور.. قد انتهى.
وأن المنظومة التي لم تنتج سوى الفشل، النهب، المحاصصة، بيع الأوهام والأكاذيب، الفوضى وتدمير المؤسسات.. قد انتهت.
وأن الحزب المسلح، الذي لم يقدم سوى الاستقراء على الداخل، واستباحة الحدود، وخطف السيادة، وتضليل الرأي العام، والتدرّع بالمدنيين لهز الاستقرار واستجرار الفوضى خدمة لأجندة إيران في المنطقة.. يجد نفسه محاصرًا بقوة، من خلدة إلى شويا، وقبلهما بكارثة المرفأ وهي جريمة ضدّ الإنسانية لا تموت بتقادم الزمن، ولا بتعلية سقف الكلام.
وأن هؤلاء جميعاً يتشاركون نهب المال العام، وتدمير المؤسسات، وتسخير القضاء والأجهزة!
ينقل عن أحد الخبراء بالشأن المسيحي، الماروني تحديدًا، قوله أنه عندما يعجز الموارنة عن إيصال أمثال كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو إلى رئاسة الجمهورية فلا لزوم عندها إلى احتكار الموقع، صونًا للمقام والموقع والدور والرسالة، ولا لزوم لرسم خطوط حمراء أو صفراء أمام أي خطوة من شأنها تحرير لبنان من أزمة وجودية. الباحث عينه يستحضر مقولة الرئيس تقي الدين الصلح للوزير الكبير فؤاد بطرس، وقد صارت مثلًا عابرًا في دلالاته «عندما ارتضينا أن يحكمنا الموارنة، افترضنا أنهم سيأتون بأفضلهم وليس بأسوأهم». وطالما الأطراف السياسية في لبنان لا تريد، أو لا تستطيع، أو لا ترغب أساسًا، بمواجهة المعطّل الحقيقي، والمتسبّب بالعزلة والخراب والإفلاس وشرعنة النهب، فلا بأس بأن يقطعوا الطريق على أداة التعطل صوناً لما تبقى.
وللرئيس المكلف، لا تسجّل على نفسك أن سهّلت خرق الدستور وتغطية الهرطقات. لا تعطي لا وزارة الداخلية ولا وزارة العدل ولا أي وزارة خدماتية.. تمسّك بالدستور حصراً.. العهد انتهى، نعم انتهى.. وعلى فخامته أن يرتاح.. ويريح، رأفة بلبنان واللبنانيين. هنا يبدأ الانقاذ.