كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
مَن كان يتصوّر أنّ الرئيس حسان دياب، الذي طلبت منه القوى السياسية، في آب 2020، أن يستقيل لتنفيس النقمة الدولية والشعبية بعد انفجار المرفأ، سيحتفل بذكرى العام الأول على الاستقالة، وسيبقى مقيماً سعيداً في السرايا حتى إشعار آخر، و”يستهلك” الرئيس سعد الحريري.. وربما آخرين؟
يعتقد بعض المتابعين أن الرئيس نجيب ميقاتي، في ضوء نتائج زياراته للقصر الجمهوري، لم يعد يستبعد الوصول إلى الإحباط الذي سبقه إليه الحريري. ولكن، يبقى الوقت، الذي سيقرِّر ميقاتي استهلاكه قبل أن يعتذر، قابلاً للأخذ والردّ. فالحريري «صَمد» 9 أشهر. ولذلك، ما زال مبكراً تقدير الوقت الذي سيختاره ميقاتي.
ولا يبدو الرئيس ميشال عون وأركان فريقه السياسي في وارد «مكارمة» رئيس مكلَّف أكثر من آخر. ويقولون: لن نتخلّى في أي شكل عن الصلاحية الجدّية الوحيدة الباقية للرئيس بعد الطائف، أي المشاركة في تركيب السلطة التنفيذية. فمِن دونها سيكون الرئيس مجرد تمثال من ورق، يتفرّج على ما يجري حوله ولا يحق له التدخّل.
وتوحي صورة الصراع السياسي المفتوح هذه، وكأنّ البلد يتمتع بالديموقراطية على مداها، ونّ اللاعبين يمارسون السياسة بلا ضوابط. ولكن، هذا ليس واقع الأمر. فاللعبة ممسوكة تماماً، والممسك الأساسي فيها هو «حزب الله». وهو لو أراد لكان أنهى الأزمة الحكومية منذ مدة طويلة، بل أيضاً الأزمة النقدية والمالية والاقتصادية.
مثلاً، في العام 2008، عندما ارتأى «الحزب» أنّ البلد ذاهب في اتجاه يُعاكِس مصالحه السياسية والأمنية، نفّذ انقلاب 7 أيار الشهير، وسار حلفاؤه إلى جانبه طائعين ورَضَخ الآخرون بسهولة. ومنذ ذلك الحين، عادت كفّة السلطة راجحة لمصلحته، للمرة الأولى منذ خروج السوريين في العام 2005.
وفي سوريا، شارك «الحزب» في الحرب منذ اندلاعها، من دون استئذان أحد، وأفهَمَ الجميع هنا أنّ هامش حركته العسكرية والأمنية غير قابل للنقاش. ومنذ أن بدأ عهد عون، تعرَّض «الحزب» لضغط عربي وأميركي استثنائي بهدف إضعافه والحدّ من سلطته في الدولة. وعلى رغم أن البلد وصل إلى الانهيار، فإنّ «الحزب» لم يفرض على نفسه تقديم أي تنازل.
مثلاً، هو يسيطر تماماً على الحدود، وهو يستطيع على الأقل وقف تهريب المحروقات والطحين التي تستنزف المخزونات القليلة الباقية من العملة الصعبة، ما يزيد على المليارين ونصف المليار دولار سنوياً. فمن المؤكد أنّ أحداً لا يمكنه القيام بعمليات التهريب، إذا أصدر «الحزب» أمراً جازماً بمنعها. وهو قادر على وَقفها تماماً سواء عند المعابر الحدودية أو من خلال كشف شبكاتها في الداخل.
وكذلك، لو أراد «حزب الله» حكومة فاعلة لفرضَها تحت عنوان «الضرورات الحيوية». وفي العادة، لا يخالف الحلفاء خياراته، خصوصاً إذا أبلغهم أنّ مصالحه العليا تقتضي منهم أن يتنازلوا لتسهيل التأليف. ولا شك في درجة تلاحم عون وباسيل مع «الحزب»، أو في ثقة «الحزب» بميقاتي الذي سبق واختَبَره في محطات عدّة، كما منحه أصوات الكتلة في التكليف.
إذاً، واضح أنّ «حزب الله» وحلفاءه ليسوا مستعجلين لإزاحة حكومة تصريف الأعمال والإتيان بحكومة فاعلة حالياً. فوضعية التصريف مثالية للتفلّت من الضغوط الدولية وتمكين هذه القوى من ممارسة المناورات السياسية وكَسب الوقت، في انتظار الحسم في فيينا بين واشنطن وطهران، ما يسمح ببلورة الصورة في لبنان. ولذلك، ليس متوقعاً الانفراج في الملف الحكومي قريباً.
بالنسبة إلى البعض، يعني ذلك أنّ حسان دياب هو الحصان الرابح عملياً، وإن كان في وضعية تصريف الأعمال. وأساساً، في هذه الظروف التي تضع الجميع في موقع الفشل، لا حظوظ لأيّ كان في الظهور بمظهر البطل، ولا مجال لتشكيل حكومة قوية وفاعلة بكل معنى الكلمة.
ولكن أيضاً، هناك مَن يعتقد أنّ دياب مَتروكٌ في السرايا وهو محكوم بوضعية التصريف، لا ليكون بطلاً، بل ليكون الخروف الذي ستتمّ التضحية به، بدلاً من القوى السياسية كلها.
فالأيام والأسابيع القليلة المقبلة ستشهد انهيارات متسارعة وبالغة الخطورة على مختلف المستويات، وهي ستستثير مزيداً من النقمة الشعبية والغضب الدولي. ومن المناسب ألّا تكون هذه القوى السياسية موجودة في السلطة بشكل مباشر، وأن تتم إضاعة المسؤوليات بحكومة تصريف أعمال ضعيفة.
وبالتأكيد، ليس هناك أحد في نادي رؤساء الحكومات يقبل بأن يأتي طائعاً ومُستضعفاً إلى رئاسة الحكومة، لتُلقى عليه مسؤولية انهيار يعتبر بين الأكبر في التاريخ الحديث، لا سيما منهم ميقاتي. ولذلك، حتى هؤلاء يناسبهم بقاء دياب في السرايا، فلا يتحمل أي منهم تبعات الوصول إلى قعر الهاوية، وإن كان يزعجهم أن يكون موقع رئاسة الحكومة هو الضعيف.
يعني ذلك أنّ حظوظ ميقاتي في التأليف سترتفع إذا ظهرت ملامح تسوية إقليمية دولية وانفراج داخلي، نقدي ومالي واقتصادي. وفي المقابل، سيبقى دياب محافظاً على موقعه في السرايا ما دام الانزلاق مستمراً نحو قعر الهاوية. وهذا هو المرجَّح حتى إشعار آخر.