كتب منير الربيع في “المدن”:
في حزيران العام 2019، التقت “المدن” الرئيس نجيب ميقاتي في مكتبه. المكتب مطلّ على السرايا الحكومية ويكشفها بكل تفاصيلها. يومها ألقى ميقاتي نظرة سريعة على السرايا وأشاح بنظره عنها. جلس على كرسيه وأدار ظهره لمقرّ رئاسة الحكومة، وقال تعليقاً على أنه قريب جداً منها: “قريب ولكنني أدير ظهري لها”. وتوقع ميقاتي في تلك الجلسة حال الانهيار التي سيصل إليها لبنان، وحمّل المسؤولية للتسوية السياسية التي عقدت في العام 2016، ولإدارتها في ظل إصرار رئيس الجمهورية ميشال عون على ضرب اتفاق الطائف وصلاحيات رئاسة الحكومة. وقال: “حينما أصبحُ رئيساً للحكومة لن أسمح لأحد أن يتحكم بي”. وهذا عنوان المقالة التي نشرت في “المدن” خلاصة لتلك الجلسة.
ميقاتي والسرايا
واليوم أصبح نجيب ميقاتي قريباً من السرايا سياسياً، وعيناه شاخصتان نحوها، ولا يدير ظهره إليها. وهو من الأشخاص الذين يحبون النجاح في أي مهمة ينطلق بها أو يسعى إليها.
هو الرئيس المكلف حالياً، ووصل إلى التكليف في زمن الانهيار الذي وصفه بنفسه بأنه “باص في منحدر بلا فرامل”. واختار أن يكون هو الفرامل للجم الانهيار، فارتضى التكليف ساعياً إلى التأليف، وقال بعيد تكليفه: “لقد تكلّفت للتأليف”. ولا يزال يسعى وراء ذلك. وانطلق في مساعيه بتنسيق مع الفرنسيين على نحو مختلف عن طريقة سعد الحريري في مهمة تكليفه. والتقى ميقاتي عشية الاستشارات بجبران باسيل، لإشاعة انطباع بأنه منفتح على الجميع في سبيل تشكيل الحكومة.
القصر والفرنسيون وباسيل
زيارات ميقاتي إلى القصر الجمهوري أبرزت عقداً كثيرة أعاقت عملية تشكيل الحكومة. فُرض عليه تجديد المشاورات السياسية مع الجميع. ويوم لوح بالاعتذار، تدخّل الفرنسيون لتدارك خياره هذا، مصرين على استمراره بمهمته للوصول إلى حكومة، ووعدوه بالتدخل.
منذ تكليفه، يرفض ميقاتي الإدلاء بتصريحات، ويعتبر أنه يستعين على قضاء حاجته بالكتمان. لكن التسريبات كثيرة ومفتوحة على الغارب، وتحتاج منه إلى إصدار بيانات نفي. وهذا ما فعله قبل يومين، رداً على خبر تناول عقده لقاءً ثانياً مع باسيل.
لكن مصادر متابعة تؤكد أن اللقاء حصل. وأكثر من جهة سياسية في البلد تتقاطع لديها معلومات عن اللقاء ومحضر مداولاته. وتستمر مصادر مقربة من ميقاتي في نفي الخبر، معتبرة أن اللقاء كان في طور الإعداد ولكنه لم يعقد، لأن باسيل لا يريد الدخول في تفاصيل الملف الحكومي. والمصادر نفسها لا تنفي تبادل رسائل بين ميقاتي وباسيل. وهي تفيد أن رئيس التيار العوني يشارك في المباحثات حول تشكيل الحكومة.
واشنطن والسعودية
في الأحوال كلها، وبعيداً عن الدخول في تفاصيل النفي والنفي المضاد، فلنسلّم جدلاً بأن ما جرى لم يكن لقاءً، بل تبادل رسائل. ويشير محضر هذه الرسائل إلى أن البحث تركز حول كيفية الوصول إلى إنجاز التشكيلة الحكومية. وركز ميقاتي على أنه ليس سعد الحريري. وهذا يعني أنه يريد تشكيل الحكومة والتعاون مع الجميع، ولا يمكنه التنازل عن وزارة الداخلية، لحسابات متعددة: سنية وسياسية. ولكنه عرض استعداده للاتفاق على الاسم السني للداخلية مع رئيس الجمهورية.
واعتبر ميقاتي أنه يحظى بدعم الفرنسيين، ولا يمكنه خذلانهم، وأن التيار العوني على علاقات تاريخية بباريس، فلا داعي لإضاعتها. وحاول ميقاتي طمأنة العهد بأن السعودية تهاجمه، وهو في مساعيه ينطلق من توازانات البلد وحمايته، وأنه عمل سابقاً على تشكيل حكومة من دون رضى السعودية. وبما أن فرنسا تدعمه فإن السعودية تقتنع به وتتعاطى معه بواقعية، في حال انفتحت عليه واشنطن.
أماني ميقاتي
وتقوم حسابات ميقاتي أيضاً على ما يمكن تحقيقه في حال تشكيله الحكومة. وأهمها في قطاع الكهرباء، ومن خلال وعود فرنسية وألمانية بالمساعدة، ومن استثمار المبلغ الذي يحصل عليه لبنان من مستحقاته من صندوق النقد الدولي، لتحقيق إنجاز يحسب لحكومته وللعهد أيضاً.
وكان ميقاتي صريحاً في أنه حاول جس نبض الصناديق العربية حول استعدادها لدعم لبنان، لكنه لم يلمس حماسة، بل شروطاً صعبة جداً. وهو تعهد باستعداده الالتزام بالتدقيق الجنائي. واتفق في مباحثاته على أن يفكر كل طرف بالموضوع، وفيما بعد يحدد موعد لقاء بين ميقاتي ورئيس الجمهورية.
الثأر العوني
وفي هذا الوقت التقى ميقاتي الرئيس نبيه برّي يوم الثلاثاء 10 أب الجاري، لوضعه في أجواء آخر التطورات. وفي هذا السياق ظهرت معلومات متضاربة: احتمال تحقيق خرق في حال قدّم ميقاتي التنازلات المطلوبة. واحتمال آخر يفيد أن عون وباسيل يراكمان على ما تحقق مع ميقاتي، للمطالبة بالمزيد، والحصول على تنازلات إضافية.
وهناك من يبدي تخوفه من أن يؤدي هذا المسار إلى وقوع الشرخ بين ميقاتي ورؤساء الحكومة السابقين. فيما يعزز عون وضعيته مسيحياً من خلال ضربه رؤساء الحكومة أو الشقاق بينهم. فمنذ إفشاله مهمة سعد الحريري، إلى احتمال إطاحته ميقاتي، يكون عون قد نجح في ضرب سنة بيروت وصيدا وطرابلس معاً، واستعاد نفوذ الرئيس المسيحي القوي، في حال سلكت واشنطن معه طريق الانفتاح.
متاهة احتمالات
وهنا يبرز احتمالان أمام كل من رئيس الجمهورية ونجيب ميقاتي: أن يتساهل رئيس الجمهورية مع ميقاتي، فتتشكل الحكومة بناء على شروط عون، فينجح في تثبيت صلاحياته بالتشكيل، وفي الحصول على حكومة مطواعة له، ويكون قادراً على التحكم بها. وإما أن يفشل ميقاتي بالتشكيل، فيقول عون للمسيحيين إنه ضرب أقوياء السنة، وأفشل مساعيهم لفرض ما يريدونه، كما رفض الدخول في تسويات مع “الفاسدين” وأركان المنظومة، ويستخدم ذلك انتخابياً.
أما خيارا ميقاتي فهما: أن يعمل على تشكيل حكومة ويقدم تنازلات مقابل فوزه بالتأليف، على ان تستمر حكومته طويلاً، فيسعى إلى تحقيق إنجازات ولو بسيطة لوقف الانهيار. وهذا ما يستبعده آخرون معتبرين أن حكومة ميقاتي لن تتلقى أي دعم، وبالتالي ينعكس التشكيل سلباً عليه وعلى شعبيته وبيئته، فتتعزز الخلافات بين رؤساء الحكومة السابقين. والاحتمال الثاني ألا يتنازل ميقاتي ويظل ملتزماً شروطه. وآنذاك تكون حساباته شعبية وانتخابية.
وسط كل هذه الحسابات والخيارات، والتفاصيل السياسية، تلقى اللبنانيون الضربة الأقوى. وهي مسألة رفع الدعم عن المحروقات. وسابقاً، كان أي رئيس مكلف يخشى من تشكيل الحكومة كي لا يواجه هذا الاستحقاق، فتنفجر الأزمة الاجتماعية بوجهه، نتيجة القرار غير الشعبي. الآن، أخذ المجلس الأعلى للدفاع -برئاسة عون- على عاتقه هذه الخطوة. وهي قد تشكل عاملاً يدفع ميقاتي للمزيد من الحماسة في سبيل تشكيل حكومته، خصوصاً في ظل اعتباره أن المساعي مستمرة وهناك إمكانية للتوافق.