بدت بيروت أمس «على أعصابها»، تحبس أنفاسها، عيْنها مكسورة وقلبها يرتعد تحت وطأة المأساة الجماعية ولسان حالها: ماذا عن الأمن «الأمني» بعدما سقط الأمن الاجتماعي وطار الأمن الغذائي وشُلّ الأمن السياسي؟
كأن بيروت كانت على موعد مع «ليلة ليلاء» بعدما لاح الارتطام الكبير مكشّراً عن أنيابه في ضوء تواطؤات السلطتين السياسية والنقدية على رفع الدعم عن المحروقات ووضع الناس في فم الوحش الهائج من الغلاء الذي يجتاح البلاد بطولها وعرضها.
«تمثيليات» سياسية ودموع تماسيح على المنابر لإمرار الارتطام ونفض اليد منه في رهان على أن قطوعاً ويمر من دون الأخذ في الاعتبار مآل عود الثقاب الذي رمي في الهشيم اللبناني بعدما قضت السلطة السياسية على «صمامات الأمان» في بلادٍ صارت رهينة للشهيات الصغيرة وللمشاريع الكبرى.
هل ما زال الوضع الأمني قادراً على الصمود في وجه حدة الأزمات المتراكمة؟… هشاشة هذا الواقع تمثل هاجساً للقوى الأمنية وأجهزة استخباراتها، بعدما استفحل الجوع والفقر في الفئات الأكثر عرضة للاستغلال الأمني.
لكن بخلاف كل التوقعات، فإن الوضع الساخن والمهترئ الذي يقارب حد الانفجار ما يلبث أن ينطفئ تحت وطأة التدخلات المحلية والخارجية، في محاولةٍ للجم أي زعزعة شاملة للاستقرار.
وبدا أنه كلما مر الوقت، زادت الثقوب الأمنية في الشبكة الداخلية، حتى باتت بؤر التوتر متعددة وغير محسوبة. في العادة، يبدأ أي كلام عن «استفاقة» التوترات من طرابلس، حيث الانكشاف الأمني والموروثات الحزبية والعقائدية وعناصر الفقر والتدخلات الإقليمية وعمل أجهزة الاستخبارات، تعطي مفعولها المباشر.
وطرابلس مع ما لحقها من تهميش اجتماعي ومؤسساتي ما زالت تتأرجح بين الانفلات الكامل وبين محاولة حبس الأوضاع الاجتماعية وضبطها فلا تتحول خزاناً تفجيرياً.
والمدينة التي تنفّس عن غضبها في تحركات مطلبية وشاركت في كل فعاليات الانتفاضات الشعبية في بيروت وأقامت احتفاليتها الخاصة على مدى أيام إبان احتجاجات 17 أكتوبر 2019، لا تعيش حال المواجهة المباشرة، كما حصل في الأيام الأخيرة مع «حزب الله» في غير منطقة، رغم ان أبناء طرابلس يتحدثون عن وجود مجموعات تابعة لـ«سرايا المقاومة» (مجموعات موالية لـ«حزب الله») في المدينة، في وقت تحدث بعض المواجهات المحدودة التي تبدأ بخلفيات اجتماعية وتنتهي بمواجهات مسلحة ذات طابع سياسي.
ومع ذلك فإن أجهزة الاستخبارات الفاعلة في المدينة، ما زالت تمسك بمفاصلها الأمنية ومفاتيحها، خصوصاً بين منطقتين بالغتيْ الحساسية أي جبل محسن «العلوي» وباب التبانة «السني».
وإذا كانت طرابلس خرجت ظرفياً من مشهد الانفلات في الأيام الأخيرة، فإن المفارقة هي ظهور بقع توتر لم تكن في الحسبان، وأظهرت خريطةً جغرافية ملغومة بحساسيات بالغة الدقة وكشفت كمية الاحتقان الموجودة بين المجموعات المتناقضة سياسياً.
لم تكن المواجهة التي حصلت بين مجموعات من «الحزب الشيوعي» و«القوات اللبنانية» في منطقة الجميزة لتكون حَدَثاً بالمعنى السياسي العميق إلا في كونها وقعت في 4 أغسطس (ذكرى تفجير مرفأ بيروت)، والردود التي تلتْها.
ويمكن وفق ذلك التعامل معها ليس بكونها مواجهة بين شبان ينتمون إلى حزبين مختلفين عقائدياً، بل بوصفها مواجهة بين تيارين، متناقضين في نظرتهما إلى الوضع الداخلي والتحالفات السياسية، المحلية والإقليمية، والانقسام الطائفي المغلّف بالاتجاهات السياسية. فما جرى بحسب «القوات» هو اعتداء مجموعات من «الشيوعي» التي توالي «حزب الله»، وما جرى بالنسبة إلى «الشيوعي» هو اعتداء قواتي في منطقة ليست غيتو لأي طرف سياسي، وهو ما تعتبره القوات «منطقتها» أي عمق المناطق المسيحية وان هناك مجموعات خارجة عنها دخلت إليها لاستهدافها.
العِبرة التي تَكَرَّست لاحقاً في حادثة خلدة، أنها جاءت تتمة لمنطق طائفي ومذهبي، في المواجهة المسلّحة بين مجموعة من عشائر عرب خلدة ذات الانتماء السني و«حزب الله».
هذه المواجهة عبّرت في التوقيت وفي حجم ما جرى عن صراع داخلي تتصاعد حدته منذ وقت طويل ويتعدى بمدته الزمنية حادثة القتل (وقعت صيف 2020) التي كانت سبباً للثأر وتداعياته (قبل نحو أسبوعين).
فالمسلسل الدموي كاد يستمر في شويا، مع إطلاق «حزب الله» صواريخ على مزارع شبعا المحتلة وتطويق مجموعة من شباب البلدة لمجموعة الحزب واحتجازهم قبل تسليمهم للجيش، وما استتبع ذلك من ردود فعل بين مجموعات درزية وشيعية في الجنوب وعلى طريق عاليه – بحمدون.
رغم حدة الحادثتين المباشرتين مع «حزب الله»، فإن الأخير حرص على سحب فتيل أي تفجير داخلي.
فمن عادة الحزب ألا ينجرّ إلى أي مواجهة في غير توقيته.
لكن ما جرى من تنقّل التوتر في أكثر من منطقة أفرز نتائج لا يمكن إلا التوقف عندها.
فمن جهة وضعت الوقائع الساخنة الجيش اللبناني في مقدمة الحَدَث، خصوصاً في خلدة وشويا، مع الانتقادات التي طالتْه حيال تصرفه الأمني في الحادثتين، الأول لجهة عدم اتخاذه تدابير استباقية في وقت كان معروفاً حجم التوتر الذي خلفته عملية الثأر والاستعداد للتشييع في خلدة، والثاني بسبب البيان الذي أصدره حول ما حصل في شويا وتسلمه مجموعة «حزب الله».
ومن جهة ثانية، كشفت الأحداث معاودة بروز القوى الحليفة لـ«حزب الله» وسورية وعودتها إلى الواجهة، بعدما اتهمت «القوات» مجموعة «الشيوعي» الموالية للحزب في التخطيط للاعتداء على مركزها في الجميزة – الأشرفية، وارتفاع لهجة الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد حادثة شويا، غداة تصعيد مماثل مارسه ضد القوات.
علماً ان القومي قدم رواية مفادها أن عناصره في شويا هم الذين حموا مجموعة «حزب الله» في مقابل المهاجمين الذين ينتمون الى الحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة وليد جنبلاط)، وهم أنفسهم الذين تعرضوا لفانات ركاب كانوا متجهين من بيروت إلى بعلبك، على طريق بحمدون وعاليه.
وعودة القومي والشيوعي تؤشران إلى رافعتين لـ«حزب الله» في مناطق حساسة الأمر الذي يجعل من السهولة حصول توترات حتى داخلية في مناطق تماس بين القومي والاشتراكي على خلفية العلاقة مع سورية.
في وقت سارع الاشتراكي إلى حصر تداعيات حادثة شويا وعمل على التهدئة مع «حزب الله».
ورغم أن التوترات طُوِّقت بفضل اتصالات على مستوى عالٍ، إلا ان نتائجها السلبية لا يمكن أن تنسحب سريعاً من الواجهة. فالحزب يدرس بدقّة كيفية التعامل مع هذه الوقائع التي جعلته في لحظات حرجة مستهدَفاً من أكثر من فئة سياسية. لكن الغلبة اليوم للأوضاع الاقتصادية المتفجرة وهي ستكون أحد العوامل التي تعيد لبنان بكل مناطقه إلى ساحات توتر لا يمكن توقع نتائجها.
إضافة إلى أن التجاذبات المستمرة الحكومية التي لا يمكن معها توقع ولادة الحكومة سريعاً، ستعيد التوترات السنية – الشيعية إلى مقدمة الحدث.
ورغم ان حادثة خلدة ليست مواجهة بين الموالين لـ«تيار المستقبل» كأبرز الأطراف السنية، وبين «حزب الله»، إلا ان توالي اعتذارات رؤساء الحكومات المكلفين، في حال أقدم الرئيس نجيب ميقاتي على هذه الخطوة، ستعيد إحياء التشنجات في وجه الحزب وفي وجه مسيحيي العهد (الرئيس ميشال عون) على السواء. وهذا الأمر كفيل بصب مزيد من الزيت على النار التي بدأت تجد منفذاً لها عبر الأوضاع الاقتصادية المأزومة.
https://www.alraimedia.com/article/1549202/خارجيات/لبنان-على-كف-توترات-سياسية-نقالة-واللغم-الغذائي-يهدد-ب-الانفجار-الكبير