لم تتمكن قوى المنظومة من وضع خلافاتها جانبا، ومن التعالي عليها، احتراما لدماء الضحايا الذين سقطوا بالعشرات في مجزرة التليل، شهداء فقرهم وتقصير الدولة في مراقبة التخزين وتأمين المحروقات بالحد الادنى، لمواطنيها. ففيما كان الناس يموتون ويحترقون في أسرّة المستشفيات وعلى أبوابها، كانت هذه الجهات تتقاذف البيانات وتتراشق التهم وتواصل معاركها وحروبها، محملة بعضها البعض مسؤولية الكارثة التي أوقعت قتلى ومصابين بالعشرات في عكار فجر الاحد.
هذا السلوك الصبياني، الذي يرتقي الى مستوى الجريمة، بحسب ما تقول مصادر سياسية معارضة عبر “المركزية”، لم يعد مستغربا من قبل الرأي العام اللبناني والدولي. فالطبقة السياسية التي لم يتمكن زلزال 4 آب من إدخال تغيير ايجابي صغير على سلوكها، ولم تحرك فيها المأساة الاقتصادية – المعيشية شيئا، هل يتوقّع عاقل ان يوقظها انفجار المازوت؟ قطعا لا، تجيب المصادر.
لكن سفيرة فرنسا آن غريو، قرّعت مرة جديدة أداء حكامنا، فكتبت عبر “تويتر”: “اليوم، أفكر بحزن عميق بأقارب الضحايا الذين فارقوا الحياة في هذا الليل في عكار. اليوم، أفكر بكل فرد يناضل في لبنان أمام الأزمة الإنسانية والصحية التي يمر بها البلد في ظروف تزداد سوءا يوما بعد يوم. الصعوبات القصوى التي يواجهها اللبنانيون ليست قدرا محتوما. يكفي أن يتحلى من هم في موقع المسؤولية بقدر قليل من الشجاعة واللياقة لتلبية حاجات اللبنانيين واحترام حقوقهم الأساسية”. وقد انضمت اليها السفيرة الاميركية دوروثي شيا اليوم، حيث قالت من بعبدا: كل يوم يمرّ بلا تشكيل حكومة تتمتع بقدرة على تنفيذ الإصلاحات ينزلق فيه الوضع إلى كارثة انسانية، ونعلم أن الشعب لا يستطيع الانتظار ونحضّ من يواصل عرقلة الحكومة والإصلاح على وضع مصالح الأحزاب جانباً.
هل سيتحلّون بهذه الشجاعة؟ كل ما سُجل في الساعات الماضية لا يبشر بالخير. فالجبهات السياسية، بدل ان تستكين امام هول الكارثة، اشتعلت وبقوة: بين بيت الوسط والعهد، بين التيار الوطني والمستقبل، بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وبالعكس، حيث لم تعجب مطالبةُ الازرق ومعراب، رئيسَ الجمهورية العماد ميشال عون بالاستقالة، الفريقَ الرئاسي. في الموازاة، كان رئيس البرتقالي يحمّل المستقبل وحاكم مصرف لبنان مسؤولية ما جرى في التليل على خلفية دعمهم التهريب وقرار رفع الدعم بصورة غير مدروسة. اما عون، وفي اجتماع طارئ للاعلى للدفاع، فألقى باللائمة على جهات متشددة متطرفة في عكار…
هذه الضوضاء بحد ذاتها (التي “انتبه” الافرقاء مساءً، الى ضرورة وضع حدّ لها) تجسّد اللامسؤولية، وهي سبب مأساة التليل وانفجار المرفأ والازمة المعيشية كلها. فالطبقة السياسية كانت ولا تزال تتلهى بمناكفاتها وبتصفية حساباتها وتبدية مصالحها، فيما المطلوب واحد: لا تفعيل الأعلى للدفاع ولا تعويم حكومة تصريف الأعمال، بل تأليف حكومة انقاذ واصلاح حقيقية اليوم قبل الغد. فهي وحدها، وبعد وضع خطة واضحة بالتنسيق مع صندوق النقد، كفيلة باخراج لبنان ولو ببطء من الجحيم، في ضوء خريطة تسير في نهجها لمعالجة ازمة المحروقات والكهرباء والدواء والطحين والمياه… اما كل الاجتماعات الرسمية الاخرى، وكل بيانات تبادل الاتهامات، وكل البطاقات التمويلية، فلن تأتي بنقطة بنزين الى اللبنانيين ولن توقف التهريب عبر الحدود ولا تسوّل المواطنين دواءهم وخبزهم، وسيناريو التليل سيكون مرشحا ليتكرر ويتمدد ليقلب لبنان كله نارا ودماء… فهل يستفيق المعنيون؟