كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
ساعات قليلة وينتهي مفعول إجراءات ردة الفعل، التي اتخذتها السلطة على قرار رفع الدعم عن المحروقات، ونعود إلى تحت النقطة صفر. الشركات المستوردة ستَفرغ من المازوت بعدما بدأت منذ نهار السبت الفائت ببيع الكميات المتبقية لديها، والمقدرة بـ 73 مليون ليتر على سعر 3900 ليرة. أمّا خزانات المحطات فستنشف من البنزين مع تواصل فتحها من الجيش وبيعها للمواطنين. وفي ظل عدم الاتفاق على مبدأ رفع الدعم عن المحروقات، قبل الوصول إلى تحديد السعر، فان الأصعب لم يظهر بعد.
السلطة نجحت بامتصاص الصدمة الأولى على القرار المتأخر بوقف الدعم عن المحروقات بفتح خزانات الشركات، ومكافحة احتكار المحطات. ولولا جريمة تفجير خزان البنزين في قرية “التليل” العكارية، لكانت مرت نهاية الأسبوع الفائت من دون أي احتجاج يُذكر. مع العلم أن التدبيرين المعتمدين من قبل السلطة التنفيذية أطالا إذلال المواطنين لأيام معدودة، ولم يفضيا إلى أي حل منطقي. فالمازوت الذي قد يكون وصل جزء بسيط منه إلى المستشفيات والأفران، حُرمت منه بقية القطاعات، وتحديداً المولدات والمصانع والقطاع الزراعي وقطاع النقل. أما الطوابير على المحطات فأصبحت تمتد لليل، بعدما كانت تقتصر على النهار. ومع هذا كله، ما زال البنزين والمازوت متوفران نسبياً بسعر مقبول لغاية اللحظة. لكن، ماذا عن الأيام المقبلة بعد نفاد كميات المحروقات كلياً وتعذر فتح الاعتمادات؟! وما هو مصير المواطنين وقطاعات الإنتاج والخدمات في حال فتحت الاعتمادات بحسب سعر السوق قبل تأمين البديل؟! وفي الإطار عينه، هل سيصمد مصرف لبنان على موقفه من رفع الدعم، أم سيخضع مرة جديدة لوعود ووعيد السلطة السياسية؟ أسئلة، ما زالت الأجوبة عليها مبهمة حتى من المعنيين مباشرة بتفاصيلها، وهو ما يثير الخشية من انقطاع تام للمحروقات في القادم من الأيام.
عقدة التسعير لم تحل
إذا كان جواب “المركزي” على رفع الدعم عن المحروقات “نهائي”، ولا رجوع عنه مهما عظم الابتزاز السياسي” بحسب معلومات مؤكدة. فان “العقدة تبقى بكيفية التسعير. ففي ظل التفاوت الكبير في سعر الصرف، حتى خلال اليوم الواحد، والعجز عن التسعير والبيع بالدولار، فانه يستحيل اعتماد سعر السوق المتغير. فالشركات المستوردة والمحطات لن تقبل بالبيع على سعر الصرف الحالي وإعادة الشراء بعد أسبوع على سعر أعلى، وفي حال تراجع السعر فستحقق ربحاً غير مشروع يؤخذ من أمام المواطنين. وفي جميع الحالات فان اعتماد سعر السوق المتبدل لسلعة استراتيجية تمتاز بالقيمة العالية وسرعة الاستهلاك تؤدي إلى ضرب مبدأ استعادة تكلفة الاستبدال Replacement value، أي المبلغ الذي يتعين على الكيان التجاري دفعه لاستبدال الأصل في الوقت الحالي، وفقاً لقيمته الحالية. هذا عدا عن أن مثل هذا الإجراء يحمل مخاطر “العملة” FX risk، ويؤدي إلى خسارة المؤسسات لرأسمالها. هذه العقدة التي كانت محط بحث منذ يوم الجمعة الفائت بين “المصرف” و”الطاقة” لم يتم إيجاد الحل لها بعد. فالأخيرة تريد تحديد سعر وسطي بين 3900 وسعر السوق، و”المركزي” مصر على سعر السوق لاعتقاده أن السعر سيتعدّل تلقائياً من بعد رفع الدعم.
رهانات “المركزي”
المركزي المتمسك بسعر السوق لاستيراد المحروقات يراهن على أمرين: الأول سياسي، وهو تشكيل حكومة في الأيام المقبلة تبدأ بخطوات إصلاحية جدية من شأنها لجم سعر الصرف والحد من التلاعب به. أما الثاني فنقدي، ويتمثل بتراجع الطلب على الدولار نتيجة انخفاض الاستهلاك والتخزين ووقف التهريب. وفقاً للمعلومات فان هناك سيناريوين رسمهما المركزي لتداعيات رفع الدعم عن المحروقات على سعر الصرف: واحدٌ، قصير المدى، حيث من المتوقع أن يرتفع سعر صرف الدولار في الفترة الأولى لرفع الدعم. والآخر، طويل المدى، ويتمثل في استعادة المركزي القدرة على ضبط سوق القطع نتيجة لعدم تفريطه بالمتبقي من الدولار من جهة، وامتلاكه كتلة الطلب الأكبر بالليرة اللبنانية من الجهة الثانية. فامتلاك مصرف لبنان للدولار والليرة سيمنحانه قدرة التدخل في الأسواق وضبط التقلبات ومنع فلتان سعر الصرف. ولن يتم فقدان السيطرة على سوق القطع في الفترة المقبلة إلا في حال استمرار المركزي بالدعم ونفاد الدولارات من بين يديه. وبالإضافة إلى هذين العاملين فان تراجع الطلب على الدولار نتيجة التوقع بألا يتجاوز حجم الاستيراد هذا العام 8.5 مليارات دولار، بعدما كان انخفض من 19.5 إلى حدود 11 ملياراً في العام الماضي، سيخفف الطلب على الدولار بشكل كبير جداً. ومع وقف التهريب والتخزين فان الاستيراد سيتعقلن أكثر، ويؤدي حتماً إلى تراجع الطلب على الدولار كما شهدناه خلال فورة الأشهر الماضية.
معركة كسب الوقت
في الوقت الذي يظهر فيه أن “عصافير” حلول المركزي ما زالت كلها على شجرة التوافق السياسي، ولا يملك بيده إلا عصفور رفع الدعم والحفاظ على ما تبقى من دولار، فان إمكانية الفوضى ما زالت أعلى بكثير من احتمال ضبط سعر الصرف ومن خلفه الانهيار. من هنا فان “احتمال التوافق على سعر منصة مصرف لبنان لاستيراد المحروقات، هو الحل الأقرب إلى المنطق”، بحسب الباحث في مجال الطاقة في معهد عصام فارس مارك أيوب، “خصوصاً أن سعر السوق الحقيقي بحسب حاكم مصرف لبنان هو سعر المنصة التي يديرها وليس سعر التطبيقات التي تحدد سعر الصرف في السوق السوداء”. ولا يمكن من الجهة الاخرى بحسب أيوب “رفع الدعم كلياً إلا حين بدء تطبيق البطاقة التمويلية. ومن الآن لوقتها سيستمرون في معركة كسب الوقت، سواء كان من خلال آلية توزيع المخزون في الشركات والمحطات، والرفع التدريجي لأسعار المحروقات باعتماد سعر يتراوح بين 12 و14 ألف ليرة لـ90 في المئة من المشتقات المستوردة، بدلا من 3900 ليرة كما هو معمول به اليوم، والتعويل على تشكيل الحكومة، وحقن الاقتصاد بـ”ابر” استيراد النفط والمحروقات “المخدرة” مرة من العراق ومرات من إيران. ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية توزع البطاقات “الانتخابية” التمويلية، ويرفع عندها الدعم عن المحروقات بشكل كلي”. ومن جهة نظر أيوب فان “اعتماد سعر المنصة يساهم أولاً بالرفع التدريجي لسعر بيع المازوت والبنزين، ولا يشكل صدمة كبيرة بالنسبة للأفراد والقطاعات الإنتاجية والخدماتية، ويعطي من الناحية الثانية بعض الوقت لبلورة الحلول الأخرى”.
النفط الايراني… سياسي
وعن مدى جدية استيراد المحروقات من إيران، خصوصاً بعدما اعربت طهران عن عدم قدرتها على مساعدة لبنان بالمحروقات نظراً للكلفة المرتفعة بحسب ما نقل عن أوساط متابعة، يلفت أيوب إلى أنه “بغض النظر عن توفر كميات من النفط الخام في إيران، فان تصديرها مرتبط أولاً بالعقوبات عليها، وثانياً بحاجتها الماسة الى العملة الصعبة لمواجهة المشاكل الاقتصادية والنقص الكبير في الكهرباء والمياه وفي غيرها الكثير من القطاعات الانتاجية والخدماتية. ما يدفع للاعتقاد بان “همروجة” استقدام المحروقات من إيران هي سياسية وليست اقتصادية. وهي تشبه الى حد ما مساعدة العراق في الفيول للكهرباء”. وإذا سلمنا جدلاً بان الحاجة الماسة للمحروقات والتسهيلات الموعودة قد تدفع الجانب اللبناني إلى عدم الاكتراث بالعقوبات التي ممكن أن يتعرض لها لبنان في حال الاستيراد من إيران، فانه ليس هناك اجماع داخلي على مثل هذه الخطوة. خصوصاً ان الدولة هي من سيستورد ويخزن في المنشآت وليس القطاع الخاص.
الحلول المقترحة في موضوع المحروقات ما زالت ترقيعية. ذلك أنه يستحيل التسعير من خارج سعر السوق، وأي سعر آخر هو استمرار للدعم واستنزاف الدولار. هذه الحلول قد تؤدي في حال الفشل في تأليف الحكومة وتبيان زيف الوعود المأمولة إلى انفجار أزمة محروقات قريباً، تشل البلد وكل قطاعاته الخدماتية والاستشفائية. إلا ان الحقيقة الوحيدة في ظل هذه المعمعة تبقى أن توقف مصرف لبنان عن الدعم اجبر الدولة على المبادرة بفتح خزانات الشركات والمحطات، واظهار اين اختفى جزء يسير من الكميات المدعومة بنحو 700 مليون دولار مؤخراً. وهذا ما يؤكد صوابيه مناشدة مصرف لبنان منذ فترة التوقف عن دعم الدولة، لكي تجبر بالبدء بعملية الإصلاح الحقيقية. ولو اتخذ المركزي مثل هذه الخطوة قبل الهندسات المالية في العام 2016، لكنا تجنبنا الازمة النقدية ونسير الآن على طريق الإصلاح الاقتصادي.