كتب رضا صوايا في “الاخبار”:
يخرق ضجيج الليل وصخبه في أحياء مار مخايل والجميزة الصمت القاتل على وجوه سكان المنطقة وروادها. تحاول الشوارع المنكوبة التي اعتادت السهر والرقص والفرح لملمة جراحها، لكن رائحة الموت لا تزال تعبق في كل زاوية.
كان القطاع المطعمي بكل تفرعاته أول من باشر عمليات الترميم والإعمار في منطقتي مار مخايل والجميزة بعد الدمار الشامل الذي لحق به في انفجار الرابع من آب 2020. خطوة قد تبدو منفصلة عن الواقع حيث كل العوامل، منذ ما قبل الإنفجار، لعبت ولا تزال ضد هذا القطاع، بدءاً بالأزمة ومروراً بكورونا وليس انتهاءً بالانهيار، في ظل احتجاز المصارف أموال المودعين، وفي غيابٍ تام للدولة، وحضور صوري وإعلامي في الغالب لجمعيات «المجتمع المدني».
الانفجار أدى إلى «تدمير جزئي وكلي لـ 2096 مطعماً ومقهى وملهى في العاصمة، 25% منها فقط تمكنت من إعادة فتح أبوابها»، بحسب نقيب أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري طوني رامي.
في مار مخايل تضررت 158 مؤسسة عاودت 75% منها أعمالها، وفي الجميزة لحق التدمير بـ 60 مؤسسة، عاودت 60% منها نشاطها. رامي يوضح أنه «حين نقول عادت إلى العمل فنعني باللحم الحي. إذ لم نحصل على أي تعويضات ولم تُقرّ أي تحفيزات، والخطة الإعفائية التي قدمناها لمجلس الوزراء لم يؤخذ بها. حتى الحمدلله على السلامة لم نسمعها من المسؤولين». ويلفت إلى «أننا أطلقنا كنقابة مبادرة بيروت مدينة الحياة وساهمنا من خلالها بشكل جزئي وكلي بإعادة إعمار 21 مؤسسة في مار مخايل والجميزة. وأمّنّا مليار ليرة دعم وُزعت على ألف موظف. لكنها تبقى مبادرات محدودة الفعالية والمدى. فتركنا لحالنا يعني تدفيع الثمن لعشرات آلاف العائلات التي تعتاش من هذا القطاع»، لافتاً إلى أن عدد العاملين في القطاع السياحي المسجلين في الضمان الاجتماعي تراجع من 160 ألفاً عام 2019 إلى حوالى 45 ألفاً اليوم.
جان حايك، صاحب مطعم Twenty Two في الجميزة، يتحدث عن مأساة ألمّت به. «فجأة فقدت كل شيء أملكه وما تعبت وحيداً لتحقيقه. بيتي تضرر والمطعم دُمّر تماماً. الدولة لم تسأل عنا، والجمعيات ما عدا القليل منها باعتنا كلاماً ووعوداً فارغة وربما جنت أرباحاً من وجعنا. معظم عملية الترميم تكفلت بها من كيسي». المخاطرة بالبدء من جديد يعيدها حايك إلى «غياب أي حل آخر. أحاول منذ فترة الهجرة مع عائلتي. حتى ذلك الوقت، أحاول أن أعتاش قدر المستطاع من المطعم رغم صعوبة الوضع. الجميزة منطقة مهجورة ليلاً، وعملية إضعافها لصالح مار مخايل بدأت منذ سنوات. الكثير من المطاعم والحانات حولي أغلقت كلياً وفقد أصحابها الأمل. أنا ابن المنطقة، وتعلمنا منذ أن ولدنا أن نتحمل المشقات في هذا البلد ونقف من جديد. لكن هذه المرة مختلفة كلياً عما سبق».
كثيرون من أصحاب الحانات والمقاهي والمطاعم الذين رمموا مؤسساتهم يشعرون وكأنهم علقوا في دوامة يصعب الخروج منها. «كأنني أسير الواقع. لا يمكنني التقدم ولا التراجع. استثمرت تعبي طوال سنوات في الحانة لأجدها مدمرة بالكامل. لم أتّكل على أحد في الترميم لأنني كنت مقتنعاً أن أحداً لن يفعل شيئاً. بدأت جدياً أفكر في مغادرة البلد»، يقول جاد مطر صاحب حانة Eclipse في مار مخايل. فيما الواقع يزداد صعوبة، «وكأن انفجار المرفأ لم يكن خاتمة المآسي بل بدايتها. في كل يوم مصيبة جديدة. كان ينقصنا أزمة البنزين والكهرباء والمولدات وطبعاً انهيار الليرة. سرعة الانهيار تسبق انتاجيتنا وقدرتنا على اللحاق بها وطبعاً لا يمكن تغيير الأسعار كل يوم أو رفعها إلى حدود غير معقولة. رغم كل ما يقال عن المغتربين والسياح هذا الصيف إلا أن الحقيقة هي أننا أولاً وأخيراً نتكل على الرواد المحليين من اللبنانيين».
حسابياً، يعمل القطاع المطعمي للبقاء على قيد الحياة. ما يشاع عن تحقيق أرباح طائلة هذا الصيف «غير واقعي خصوصاً أننا نراكم خسائر منذ سنوات وتحديداً مع ظهور فيروس كورونا وما رافقه من إغلاق. نشتري الدولار حالياً بحوالى 20 ألف ليرة ونبيعه بـ 7 أو 8 آلاف ليرة. الفاتورة السياحية قيمتها الثلث. المطعم الذي كنت تأكل فيه بـ 60 دولاراً صارت فاتورته 20 دولاراً. والمشروب الذي كان سعره 20 ألف ليرة أي 13.5 دولار أصبح سعره 50 ألف ليرة أي دولارين ونصف دولار. القطاع يصغر والقدرة على الصمود تتضاءل» يشدد رامي.
عودة الحياة الليلية إلى منطقتي الجميزة ومار مخايل أعادت إلى الواجهة مأساة سكان المنطقة الذين حولت الحانات والمقاهي والمطاعم خصوصاً تلك التي لا تلتزم بالقوانين حياتهم إلى «جحيم».
تلفت مارلين نصر الناشطة في «مجموعة سكان وأهالي مار مخايل» إلى أنه «لا يجب أن يغيب عن بال أحد أن هذه المنطقة سكنية في الأساس. مشكلتنا ليست مع الحانات والمطاعم ككل فمن حقهم أن يسترزقوا، ولكن بل مع البعض منها التي تسبب الإزعاج ولا تحترم الضوابط وترفع الموسيقى إلى حدود لا تحتمل». وتشير إلى أن «حياتنا تبدلت بشكل كامل. لا ننام قبل الساعة 2 أو 3 فجراً. لم نعد نستقبل الزوار بسبب الضجيج وغياب الأمكنة لركن السيارات التي تحتلها شركات الفاليه باركينغ. حتى المشي على الرصيف بات مستحيلاً ونضطر للمشي على الطرقات صيفاً وشتاءً بعد أن احتلت الحانات والمقاهي والمطاعم الأرصفة بأكثر مما هو مسموح. في المحصلة الكثير من السكان غادروا نهائياً والكثير من المتاجر والمؤسسات الحرفية أغلقت أبوابها وفقدت زبائنها بسبب هذا الواقع».