تُطْبِق الأزماتُ على «الوطن الصغير» لبنان الذي لا يكاد أن «يلتقط أنفاسَه» موْضعياً ولفترة محددة من واحدةٍ حتى يزداد عصْفُ أخرى، وكأن سبحة الكوارث تكرّ في الطريق إلى القعر المفتوح.
وفيما كانت عكار تشيّع المزيد من ضحايا مجزرة التليل، وبينهم عسكريون، وسط أجواء حزن وغضب كبيريْن ومطالباتٍ بمحاسبة المسؤولين عن هذه «المحرقة»، تعمّقت أزمة المحروقات التي اتخذت منحى أكثر تعقيداً بعد القرار الذي «لا عودة عنه» الذي اتخذه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بوقف دعْم استيراد البنزين والمازوت وتأكيد أن فتْح الاعتمادات الجديدة سيكون على سعر دولار السوق الموازية (نحو 18 الفاً) عوض 3900 ليرة كما كان عليه الحال في الأسابيع الأخيرة، وهو القرار الذي لم يصبح نافذاً بعد في ظل عدم إصدار وزارة الطاقة تسعيرة بموجبه.
وإذ ستتيح موافقةُ «المركزي» الاستثنائية على تمويل إدخال باخرتيْ مازوت (80 مليون ليتر وفق دولار 3900 ليرة) بدأ إفراغهما أمس تأخيرَ «العتمة القاتلة» وتَساقُط القطاعات الحيوية التي يُعتبر المازوت بمثابة «اكسير حياة» لها في غياب التغذية بالتيار الكهربائي عبر مؤسسة كهرباء لبنان إلا في ما ندر، استعرتْ عملية «عض أصابع» على جبهة البنزين في ظل عدم حسْم التسعيرة التي ستُعتمد للاستفادة من حمولة باخرة راسية قبالة الشاطئ اللبناني، وإعلان الشركات المستوردة أن مخزونها نَفَد بالكامل.
وفي حين «تقاتَل» اللبنانيون على آخر ليترات بنزين في المحطات التي تَكَرَّرَتْ أمامها الإشكالات وسط تحوّل طرق رئيسية وفرعية «سجناً كبيراً» علقت فيه آلاف السيارات في اختناقٍ مروري كارثي وسط تضارب المعلومات عن إمكان الموافقة على إدخال باخرة البنزين على أن يُعتمد سعر 12 الف ليرة للدولار كمرحلة انتقالية، شكّلت الأرقامُ التي نَشَرَها الجيشُ اللبناني عن كمية البنزين والمازوت التي صادَرَها في 3 أيام وكانت مُعَدَّةً إما للتهريب الى سورية أو للبيع في السوق السوداء مفاجأة صاعقة تقاطعت التعليقات بإزائها عند اعتبار أن لبنان «المتعطش» للمحروقات يعوم على ملايين الليترات، بما يفسّر الرقم المخيف الذي كشفه «المركزي» بتأكيده أنه غطى في شهر يوليو الماضي لوحده استيراد محروقات بـ 820 مليون دولار (بينها فيول للكهرباء بـ 120 مليوناً) ولكن أزمة البنزين والمازوت استمرت بل تفاقمت.
وبحسب بيان لقيادة الجيش، فإنه «نتيجة الكشف على محطات المحروقات وعمليات الدهم التي أجرتها وحدات الجيش في 14 و15 و16 الجاري، تمت مصادرة 4.392.725 ليتراً من البنزين و2.212.140 ليتراً من المازوت.
وأُلزم أصحاب الكميات المضبوطة ببيع 4.349.865 ليتراً من البنزين و1.671.737 ليتراً من المازوت إلى بعض المستشفيات والأفران وشركة كهرباء زحلة، وبتوزيع 2300 ليتر من البنزين و279.300 ليتر من المازوت مجاناً على عدد من المواطنين والمؤسسات.
كما تمت مصادرة 40.560 ليتراً من البنزين و261.103 ليترات من المازوت لمصلحة الجيش».
وعلى وقع «محاكاة» استباقية للانقطاع الكامل للبنزين والمازوت عبّرت عنها مشهدية رمزية كان أبطالها أطباء وصيادلة ساروا على الأقدام من مستشفى إلى آخر في بيروت ناقلين مريضاً افتراضياً على حمّالة، وفي ظل قطْع طرق واسع في مناطق لبنانية عدة، حذّرت نقابة المستشفيات من أنه «اذا استمرت الأمور على هذا المنحى الانحداري فنحن أمام سيناريو كارثي محتم سنصل إليه في أقل من أسبوعين وسنشهد فوضى عارمة لا يمكن السيطرة عليها وتوقفاً قسرياً لعدد من المستشفيات.
أما تلك التي قد تستمر في تقديم الخدمات فسيكون ذلك بإمكانات محدودة جداً وهي حكماً لا تؤمن سلامة المريض وفق الحد الأدنى من المعايير المعقولة».
وإذ أكدت «اليوم وصلنا الى نهاية المطاف ولم يعد مكان للمناورة وكسب الوقت وتجميل الأمور»، لفتت إلى «أن لا كهرباء ولا مازوت لتشغيل مولدات المستشفيات ولا بنزين للاطباء والموظفين للوصول إلى أماكن عملهم.
وعدد من الأقسام والطوابق أقفلت ومكيفات الهواء في غرف المرضى توقفت»، مشيرة إلى «أن اختفاء الادوية من جهة، والارتفاع الجنوني في ثمن المستلزمات الطبية أثبت كم هي خاطئة آلية الدعم التي اتُبعت والتي نبّهنا منذ بداية تطبيقها أنها لن تؤدي الى نتيجة سوى الاثراء غير المشروع للمحتكرين وللمتواطئين معهم».
كما حذرت من «ان عدداً كبيراً من المستشفيات لن يتمكن بعد الآن من تقديم العديد من الخدمات الدقيقة والضرورية كتأمين العلاج الكيميائي لمرضى السرطان، والمضادات الحيوية للمرضى الذين يعانون من الصدمة الانتانية choc septique أو الأدوية الضرورية لعلاج مرضى غسل الكلى أو البنج الضروري للعمليات! كذلك نحن امام موجة جديدة من كورونا التي اذا اشتدت فلن تتمكن المستشفيات من استيعابها لما أصابها من وهن في الأشهر الماضية».
وفي موازاة ذلك، بلغ صدى أزمة الوقود وسائر «مصائب» لبنان الأمم المتحدة التي عبّرت منسقتها للشؤون الإنسانية في «بلاد الأرز» نجاة رشدي عن «قلقها البالغ» إزاء تأثير فقدان المحروقات على خدمات الرعاية الصحية وإمدادات المياه، مشيرة إلى الحاجة الماسة لتجنب وقوع كارثة.
وأشارت المسؤولة الأممية كما نقلت عنها قناة «الحرة» إلى أن «آلاف الأسر معرضة لخطر الوقوع في كارثة إنسانية وذلك لأن نقص الوقود يهدد توفير الخدمات الصحية والمياه في جميع أنحاء البلاد».
وأضافت: «نتيجة تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، يواجه النظام الصحي تهديدات ملحوظة، تتمثل في محدودية السيولة، ونقص الأدوية، وهجرة الطاقم الطبي».