كتب جوني منير في “الجمهورية”:
المستجدات الهائلة التي أصابت أفغانستان تردّد صداها بقوة في كل أرجاء المنطقة وحتى في بيروت، رغم الويلات التي تضرب الكيان اللبناني، وتعصر ما تبقّى في مقومات الحياة. لكن ما حصل في افغانستان يشكّل منعطفاً أساسياً للشرق الاوساط، وهو ما جعل اللبنانيين يشيحون بنظرهم ولو لبرهة لتقييم ما حصل.
فإقرار الرئيس الاميركي جو بايدن بأنّ الانهيار السريع الذي حصل في افغانستان بشكل مخالف للتوقعات، لا يلغي ابداً الاستنتاج القائل بأنّ الادارة الاميركية فشلت في تنظيم انسحاب قواتها. ستطارد مستقبلاً صور الافغان اليائسين وهم يحاولون تسلّق الطائرة العسكرية الاميركية، لمدة طويلة وربما الى الأبد، تماماً كما حصل مع صورة الفييتناميين الذين حاولوا ركوب المروحية العسكرية الاميركية أثناء انسحابها عام 1975. رغم ذلك، قال بايدن انّه يتمسك بقوة بقراره ولهذا أسبابه.
في الشكل، خرج الجيش الاميركي بعد 20 عاماً من افغانستان لتعود حركة طالبان الى السلطة الكاملة. قبل ذلك حصلت مفاوضات في قطر مهّدت لقرار الإنسحاب، لكن لا بدّ أن يكون ثمة تفاهمات سرّية بدأت تظهر وتتعلق بحماية المصالح الاميركية، وبالتالي عدم استهدافها. عدا ذلك، تبدو واشنطن كمن ترك خلفه الغاماً ستنفجر في دول جوار افغانستان، والتي هي بالمناسبة على علاقة صعبة مع واشنطن.
صحيح انّ حركة طالبان تبدي مرونة فائقة، وتعلن انّها ستكون مختلفة عن طالبان ما قبل 2001، لكنها في نهاية الامر هي إمارة اسلامية تقوم على أسس دينية متطرفة ومتشدّدة. وبالتالي، فإنّ الدول المحيطة لا بدّ لها ان تقلق وتحسب حساباتها، رغم سعيها الى تأسيس علاقة جيدة مع طالبان، بهدف الالتفاف على التناقضات الايديولوجية.
فالبشتون الذين يمثلون العمود الفقري لطالبان، هم على عداء عقائدي مع الهزارة الشيعة والاوزبيك الاتراك، وعلى علاقة ممتازة مع الايغور الصينيين، في وقت بات عدد المسلمين في الصين يناهز الـ 120 مليوناً.
اضف الى ذلك، انّ الانسحاب الاميركي سيترك فراغاً ستتصارع القوى الموجودة على ملئه، مثل ايران وروسيا وتركيا واسرائيل.
ولا شك انّ دولاً أخرى لا تبعد كثيراً عن افغانستان، سيتصاعد منسوب قلقها، لاعتبارها انّ صعود طالبان من جديد سيعطي دفعاً للاخوان المسلمين، مثل مصر والامارات العربية والاردن. باختصار، فإنّ استعادة طالبان لأفغانستان ينبئ ببداية مرحلة جديدة لها قواعدها وشروطها ومعادلاتها. وبالتأكيد لا وقت لدى المسؤولين في لبنان لإجراء قراءة معمقة بتطورات افغانستان، والأهم تأثيرها المستقبلي على الساحة اللبنانية. قد يكون من المبالغ فيه الاعتقاد بأنّ تأثيراً مباشراً سيحصل على لبنان، لكن الواقعية تشير الى انّ التأثير سيكون بطريقة غير مباشرة.
رغم ذلك، استمر النزاع الحاصل حول الحكومة. صحيح انّ الأجواء التفاؤلية هي التي تسود، لكن العبرة في النتائج. خلال الأيام الماضية ساد التفاؤل حول قرب ولادة الحكومة لدى مختلف القوى. «حزب الله» أبلغ من تواصل معه انّ الحكومة على بعد ايام معدودة، وكذلك فعل الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط، كما انّ اجواء القصر الجمهوري ومصادر «التيار الوطني الحر» تحدثت ايضاً عن ولادة وشيكة للحكومة، لكن الدخان الابيض لم يتصاعد بعد.
لا شك انّ تقدماً ملحوظاً طرأ خلال الايام الماضية. فالعقدة الاساس، والتي هي وزارة الداخلية، خضعت لمعالجات مكثفة. فبعد تبادل الاسماء والاقتراحات، عاد واستقر الرأي على اللواء ابراهيم بصبوص، لكن المسألة تطلبت تدخّل «حزب الله» لدى رئيس الجمهورية، على اساس انّ سيرة بصبوص تثبت نزاهته وعدم ارتهانه السياسي لأي فريق. وقيل انّ البحث تناول ما هو أبعد وأعمق، اي الأقسام والمهام داخل وزارة الداخلية وموضوع الخدمات فيها وكيفية تعاملها وضمان توازناتها الداخلية. رغم ذلك، هنالك من يقول انّ الموافقة هي مبدأية ولم تصبح بعد نهائية.
في الواقع، فإنّ رئيس الجمهورية يدرك جيداً أنّ التوقيع الذي سيمنحه للحكومة قد يكون آخر توقيع سياسي له. وهو يأتي بعد الانقلابات الهائلة في توجّهات الشارع، وقبل استحقاقين اساسيين يطالان بشكل مباشر وريثه السياسي جبران باسيل. وبالتالي، فإنّ التفاؤل الذي تصاعد خلال الايام الماضية جرى بناؤه على أساس حلّ عقدة الحقائب، بينما الواقع الفعلي مختلف بعض الشيء. فالعقدة هي عقدة الأسماء وليست الحقائب. وإبراز المسألة على اساس انّها نزاع حول الحقائب هو من باب «التهذيب» وربما «التقية» السياسية.
ثمة إحساس يسود الاوساط السياسية، ولو انّ احداً لم يعلنه بعد، وهو تمسّك رئيس الجمهورية بالثلث المعطّل لباسيل. فعدا انّ الحكومة ستشرف على الانتخابات النيابية المقبلة، فهي في الواقع ستتولّى إدارة مرحلة الفراغ لما بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. فليس من عاقل قادر ان يعتقد بأنّ ولادة حكومة ما بعد الانتخابات مسألة متيسرة، خصوصاً أنّ هذه الانتخابات ستنتج توازنات نيابية جديدة، ما يعني استمرار الحكومة في إطار تصريف الاعمال.
وايضاً، ما من عاقل يعتقد انّ الانتخابات الرئاسية ستحصل في مواعيدها الدستورية، في ظلّ الظروف المعقّدة في لبنان والمنطقة. وبالتالي، فإنّ الإمساك بشرايين الحكومة من خلال الثلث المعطّل سيلزم الجميع بالتحاور والتفاوض مع الفريق الحكومي الأقوى والأفعل. هكذا هي الحسابات غير المرئية للتعقيدات الحكومية.
في المقابل، فإنّ الرئيس نجيب ميقاتي يقف على «الشوار»، فهو مضطر الى مناقشة الاسماء اسماً اسماً، كونه لا يريد ان تكون حكومته رهينة سياسية لدى احد، وإلّا فكيف يُفسّر مثلاً رفض اسم بحجم فايز حاج شاهين الى وزارة العدل، وفي الوقت نفسه يدرك انّ الرئيس سعد الحريري ومعه نادي رؤساء الحكومة يقفون خلفه ويحملون بيدهم سلاح الشارع السنّي.
وهو بالتالي غير قادر للتقدّم خطوة الى الامام، ولا هو قادر ايضاً على التراجع خطوة الى الوراء، هذا اذا افترضنا انّه يرغب في ذلك.
فهنالك من لوّح اكثر من مرة بأنّ رفع الغطاء السنّي جاهز عند اي خطوة تُعتبر متهاونة. المشكلة انّ عامل الوقت بدأ ينفد، وانّ الرئيس ميقاتي الذي يريد تشكيل الحكومة، قد يجد نفسه امام الاعتذار لا محال. وعندها، هنالك من لوّح بأنّ الخطة جاهزة لدى نادي رؤساء الحكومة السابقين، بامتناعهم عن اي تسمية جديدة والذهاب في المواجهة الى الآخر.
هذا المناخ مقروناً بالانهيارات المتتالية على الصعيد المعيشي والحياتي، وتوسع رقعة الفوضى، دفع بالعواصم الغربية الى رفع مستوى الضغوط الى الحدّ الاقصى. وخلافاً لكل ما يُقال، فإنّ مستوى الضغوط الذي تمارسه واشنطن وباريس بلغ حداً بعيداً. فالخشية هي من ارتفاع مستوى التفلّت الامني الحاصل، وسقوط دماء الفوضى على نطاق واسع، وهو ما سيجعل القوى الامنية اللبنانية عاجزة عن الإمساك بالوضع ولو بالحدّ الأدنى. وقد نُقل هذا التحذير بوضوح الى كل من رئيس الجمهورية والرئيس نجيب ميقاتي. وهذه الفوضى قد تفتح ابواباً اضافية الى جهنم، وستؤثر على استقرار الاوضاع الحدودية للبنان، ان جنوباً او حتى مع سوريا ولِمَ لا عبر البحر.
من هنا فإنّ التطورات التي شهدتها افغانستان، ستعطي من دون شك دفعاً معنوياً لجميع القوى المتشدّدة، والتي كانت ترى ولا تزال بأنّ الظروف اللبنانية هي مثالية للنمو والتحرك، حتى ولو لم يكن هنالك من رابط فعلي وحسي بين طالبان وبينها.
وعدا الانهيار المعيشي الذي يخنق لبنان، فإنّ اشتداد الأزمة السياسية، سيجعل بعض الساحات بيئة خصبة لتمدده. وانطلاقاً من هذه المخاوف، ارتفع مستوى الضغوط لإنجاح تشكيل الحكومة، وهو عامل اضافي من العوامل المتفائلة التي ظهرت أخيراً.
لكن العبرة دائماً تبقى في النتائج.