كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
لا تَشابُه بين الوضع الأفغاني والوضع اللبناني، والربط بين تخلي واشنطن عن كابول وتخلّيها عن بيروت في غير محله، لمجموعة عوامل وأسباب.
شكّل الخروج الأميركي من أفغانستان تطوراً مهماً وحدثاً استأثر بِحيزّ واسع من المتابعة والقراءات السياسية والتحليلية، التي يصعب ان تقدِّم صورة دقيقة عن مستقبل الوضع الأفغاني بعد الخطوة الأميركية، في اعتبارها تندرج في الإطار الوصفي لواقع الحال، فيما الأنظار ستتركّز من الآن فصاعداً على طريقة إدارة «طالبان» هذه الدولة لجهة السياسة التي ستعتمدها إزاء الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والدول الإقليمية، وما إذا كانت ستشكل بيئة حاضنة لـ»القاعدة» مجدداً، فضلاً عن السياسة التي ستنتهجها حيال طهران تحديداً.
فبعد 20 عاما على الوجود الأميركي في أفغانستان لا يفترض استبعاد وجود اتفاق ضمني مع «طالبان»، ولا استبعاد ان يكون هذا التنظيم قد اتّعَظ من تجربته السابقة. ولكن بمعزل عن هذين الاحتمالين، فإنه يدرك ان استعادته للنهج السابق ستعرِّضه ليس فقط للعقوبات، إنما للضربات العسكرية، وبالتالي لا مصلحة له في إعادة إنتاج السياسات نفسها.
والكلام عن الفشل الأميركي لا يتعلّق بالخروج من أفغانستان، لأنه لا يفترض ان تبقى واشنطن أساساً في كابول، فهذا الوجود كان يفترض ان ينتهي قبل ذلك، إنما الفشل، في حال يُمكِن الكلام عن فشل، يكمن في عاملين:
ـ العامل الأول يتعلّق بعدم بناء جيش قوي ومتماسك قادر على بسط سيطرته على الأرض والتصدي لأي محاولة انقلابية تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
ـ العامل الثاني يرتبط بعدم الشَبك مع قوى سياسية وازِنة شعبياً ومَدّها بالدعم اللازم لكي تتمكن من تغيير مزاج الناس من مؤيّد ومتعاطف مع حركة متطرفة، إلى مؤيّد لأحزاب وتيارات قادرة على إخراجه من واقعه المأسوي وربطه بالعالم.
وانطلاقا من هذه النقطة بالذات يبرز واقع الاختلاف بين لبنان وأفغانستان. وقبل تشريحها، من الضروري الإشارة إلى ان التوازن القائم في لبنان اليوم ليس مردّه إلى وجود عسكري أميركي على غرار ما كان عليه الوضع في كابول، لأنه لا وجود عسكريا أميركيا أساسا، بل الوجود العسكري المَشكو منه هو وجود إيراني عن طريق «حزب الله».
وإذا كان هناك من يخشى ان ينسحب التخلّي الأميركي عن أفغانستان بتخلٍ عن لبنان، فهذا الأمر حاصل أساساً، حيث ان لبنان متروك أمره لطهران، فلا إصرار أميركياً على تطبيق القرارات الدولية، وتحديدا 1559 و1680 و1701، ولا إصرار على فرض حِياده أو وضعه شرطاً مُلزِماً لأي اتفاق مع طهران.
وإذا كان هناك من يخشى أيضا من صفقة أميركية-إيرانية تقدِّم لبنان هدية لطهران على غرار الضوء الأخضر الذي أُعطي للنظام السوري في العام 1990 من أجل أن يُصادر القرار اللبناني، فالأمر غير ممكن ليس لاعتبارات أميركية أو دولية، بل لأسباب لبنانية أبرزها الآتي:
ـ أولاً، لا يُحكم لبنان بقوة احتلال داخلية، إنما بقوة احتلال خارجية. وما ينطبق على النظام السوري لا ينسحب على النظام الإيراني، لأنّ السيطرة السورية كانت مباشرة على القرار اللبناني، فيما السيطرة الإيرانية هي عن طريق «حزب الله»، أي عن طريق فريق لبناني داخلي يمثّل شريحة مذهبية تُثير سيطرتها انقساماً من طبيعة مذهبية وطائفية.
ـ ثانياً، لم يتمكن النظام السوري من السيطرة على لبنان بفعل قرارٍ دولي فقط، إنما مَردّ سيطرته عائد إلى مظلة داخلية بسبب خشية اللبنانيين من بعضهم بعضاً، واستخدام البعض منهم للنظام السوري من أجل تحقيق مشروع غَلَبة في الداخل، لأنّ إنهاء الحرب لم يُستَتبع بمصالحة حقيقية، فاستمرت هذه الحرب بوسائل أخرى، وقد استفاد النظام السوري من هذه المناخات من أجل ان يبسط سيطرته على القرار اللبناني، وفي اللحظة التي استعاد فيها اللبنانيون وحدتهم خرج جيشه من لبنان.
ـ ثالثاً، لا يمكن لبنان التعددي ان يُحكم من مذهبٍ او طائفة، واي خلل في الشراكة يؤدي إلى حرب في الحد الأقصى، وعدم استقرار في الحد الأدنى، خصوصاً ان «حزب الله» هو مكوّن شيعي وعقيدته دينية بامتياز، وهو جزء لا يتجزأ من ثورة دينية ودولة أهدافها دينية. وبالتالي، يستحيل عليه ان يحكم لبنان الذي حكمته دمشق بتبرير مثلّث:
ـ التبرير الأول، انّ وجودها في لبنان هو ضمان لمنع عودة الاقتتال الداخلي في ظل حروب الطوائف داخله، وقد أقنعت المجتمع الدولي بذلك، ووضعت كل جهودها من أجل إبقاء الجسور مهدّمة بين اللبنانيين، خصوصاً ان واشنطن كانت في حاجة الى وقف الحرب اللبنانية استعدادا لمفاوضات السلام العربية-الإسرائيلية، ولا تريد ان يكون لبنان منصة لاستهداف هذه المفاوضات، فسلمّت النظام السوري القرار اللبناني.
ـ التبرير الثاني انّ الوجود الإسرائيلي في الجنوب يُحتِّم وجودها في لبنان كحماية لبيروت ودمشق، وأكثر ما أربَكها تمثّل بالانسحاب الإسرائيلي الذي أفقدَها الذريعة التي تروِّج لها.
ـ التبرير الثالث انها دولة مدنية وتقف على مسافة واحدة من نزاعات اللبنانيين الطائفية. فعدا عن كَون «حزب الله» مكوّن شيعي بأهداف دينية وإيرانية ويثير انقساماً من طبيعة مذهبية وطائفية، فأيّ تبرير سيقدِّمه لحكم لبنان على غرار التبرير السوري الذي استنَد إلى دور الحاجز بين الطوائف والمذاهب، وهذا الدور بالذات لا يستطيع ان يقوم به الحزب كونه جزءاً من هذه التركيبة.
ولكنّ النقطة الأهم من كل ذلك تبقى انّ النظام السوري لم يحكُم لبنان بقرار دولي ضمني فحسب، إنما حَكَمه بقرارٍ وغطاء من معظم القوى الإسلامية نتيجة ظروف الحرب، الأمر غير القائم مع «حزب الله».
ـ رابعاً، ميزان القوى الأساسي دائماً وأبداً هو ميزان القوى الداخلي، وهذا تحديداً ما فَرضَ عودة «طالبان» في أفغانستان، وما فرض إخراج الجيش السوري من لبنان، وما أدى إلى قيام توازن رعب بين 8 و 14 آذار على رغم الترسانة العسكرية لـ»حزب الله».
فلو كان ثمّة تيارات مناهِضة لـ»الطالبان» ولها وزنها الشعبي والسياسي واستفادت من الرعاية الأميركية، لَما نجح هذا التنظيم في أن يُمسك بالقرار الأفغاني مجدداً، لكن الخروج الأميركي ترك فراغاً استفادَ منه «طالبان» لِيَملأه في اعتباره الأقوى على الأرض.
وعندما خرج الجيش السوري من لبنان بفِعل وحدة الموقف بين معظم المسيحيين والسنة والدروز وبعض الشيعة، أدى انسحابه إلى عودة الأحزاب المسيحية التي غَيّبها النظام السوري في اعتبارها تعكس إرادة بيئتها تماماً على غرار الواقع الطالباني، كما انّ البنية المجتمعية اللبنانية لا تشبه البنية الأفغانية، حيث ان التوازن الدقيق بين المسيحيين والسنة والشيعة والدروز لا يسمح بغَلَبة طائفة على أخرى.
والخلفية الأساسية لطرح إلغاء الطائفية السياسية هو إلغاء هذه التعددية الداخلية بالذات، أي ميزان القوى الذي تؤمنه الطوائف إفساحاً في المجال لتغليب طائفة بمشروع إقليمي على الطوائف الأخرى وإحكام سيطرتها على البلد، الأمر الذي يستحيل حصوله في ظل التعددية القائمة.
فلا وجوه شبه بين الواقع الأفغاني والواقع اللبناني، وأي قرار دولي، ولن يحصل، بتسليم لبنان لإيران لن يجد طريقه إلى الترجمة العملية بسبب ميزان القوى الداخلي الذي سيدفع إلى تبنّي المجتمع الدولي مطلب معظم اللبنانيين بالسيادة والحياد وقيام الدولة، على غرار تَبنّيه مطلب انتفاضة 14 آذار بخروج الجيش السوري من لبنان.