IMLebanon

بعد النيترات والبنزين: القتل التالي للبنانيين بالغاز

كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:

لم يكن تفجير مرفأ بيروت حادثاً، بل كان جريمة حملت في أخطر أبعادها إبادة أكبر عدد من أهالي بيروت وتهجير البقية، على أنّها لم ولن تكون الوحيدة التي تحمل صفة القتل الجماعي، إنّها عملية قتل متمادية لشعب أعزل جاء به مجرمو العصابة الحاكمة إلى مقاصل موت أعدّوها عن سابق إصرارٍ وتصميم، ويعملون بكلّ ثبات على طمس معالم هذه الجرائم بوسائل القمع الثقيل المتوحش، وبطرق الالتفاف السياسية الأفعوانية التي تهدف إلى تضييع البوصلة وإلصاق التهم بـ«معلم التلحيم» وبالتقصير الإداري، بينما يبقى الفاعل واضحاً وبعيداً عن سلطة العدالة.

ليست هذه المقدمة تنفيساً لحالة غضب لم تعد تهدأ لدى اللبنانيين وتتخذ أشكالاً مختلفة، بل هي تمهيد للمضيّ في تقديم سياق ما ينتظرنا من مخاطر القتل الجماعي، التي تبتدعها سلطة متكاملة بموالاتها ومعارضتها، فلم يعد ممكناً استبعاد أسوأ الفرضيات ولا تجاهل أبشع الكوابيس.

اعتقد كثيرون منّا، أو أملوا، أنّه بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت لن يشهد اللبنانيون مقتلة جديدة من هذا النوع، لأنّها ستكون رادعاً عن تكرارها، لكنّ إصرار السلطة على قتل الحقيقة في جريمة العصر، فتحت شهية القتلة المتلبسين لبوس المهربين والتجار الفجّار، على الإيغال عميقاً في سحب كلّ خواصّ الدولة وقدراتها، متسلّحين بتسخير أجهزة أمنية لصالحها، وبأغطية نواب أدمنوا التهريب بجميع أنواعه، فكانت جريمة تفجير خزان البنزين في التليل.

ثمة جوامع مشتركة بين جريمتي تفجير المرفأ والتليل، أوقحها ما حاول البعض إقناعنا به، عن مسؤولية «معلّم التلحيم» عن جريمة قتل بيروت، وعن تسبّب «ولاّعة» بتفجير خزّان الموت في عكار. هي الطريقة نفسها التي تعتمد التسطيح وتبرئة المجرم وتجهيله، لإلصاق الاتهام بمن يمكن استفرادهم وإبعاده عن الذين شاركوا واستثمروا في الأعمال غير المشروعة التي اتنهت وتنتهي في أغلب الأحيان بهذا النوع من الكوارث.

جرّب المجرمون فينا حتى الآن، القتل بالمتفجرات، مع اغتيال الشهيد رفيق الحريري وسلسلة الشهداء من بعده، ثمّ جاؤوا بالنتيرات وفجّروا بها قلب بيروت فقتلوا وأصابوا وهجّروا ودمّروا.. ومع تفاقم الأزمة المعيشية وتحوّل حياة الناس إلى طوابير متنقلة، ومطاردتهم لبعض ليترات من البنزين أو المازوت، كان لا بدّ من توجيه ضربة إليهم حسب طبيعة المرحلة، فكانت المقتلة في التليل، عندما قام نجل صاحب الخزانات شريك النواب في التهريب والمقاولات والسياسة، بإطلاق النار على خزان البنزين متسبِّباً بتفجيره وبسقوط عشرات الضحايا بين شهيد ومحترق!

لن تتوقف هذه الأعمال الإجرامية، وستتكرّر في تجمعات الناس على محطات المحروقات أو عند الخزانات المملوءة بالمحروقات، وسيضاف إليها قريباً مراكز توزيع الغاز، مع اشتداد الأزمة بسبب تجفيفها من السوق واضطرار الناس للتجمع حول مراكز توزيعها وتحوّلها إلى «هدف دسم» للاغتيال الجماعي.

لا يستغربنّ أحد هذا الاحتمال، فهو احتمال أكثر من وارد، والتحذير منه واجب، وعلى القوى الأمنية اتخاذ الإجراءات الاحترازية في هذا المجال لمنع تكرار المجازر في مراكز توزيع الغاز، لأنّ العقل الإجرامي في بلدنا لم تعد له حدود.

يريد القتلة في السلطة المنخرطة في المحور الإيراني تفريغ البلد بجميع الوسائل والطرق، وهي تبتدع للبنان نموذج الإبادة والتهجير الخاص به، لأنّ الظروف لا تسمح بالإبادة المكشوفة كما حصل في سوريا والعراق، وهذا ما تجلّى بجريمة تفجير مرفأ بيروت، وتواصلت في القتل بإخفاء الأدوية من الأسواق، وضرب قطاع الاستشفاء وتجفيف منابع الطاقة في البلد، مع ما ينتج، وسينتج، عن ذلك من ضحايا بالآلاف.

لدى إيران مشروعها الإحلالي في لبنان، وهو مشروع يتوسع منذ نشأة «حزب الله» في ثمانينات القرن الماضي حتى اليوم، ونشاهد تجلياته في الاختراقات الجغرافية ذات الطابع المذهبي والأمني، على طول الساحل اللبناني وفي الجبل والبقاع، إضافة إلى الاختراقات التي تحمل مسميات تمويه سياسي، مثل «سرايا المقاومة».

إنّ الناظر إلى مستوى تدفـّق اللبنانيين المغادرين للبلد في السنتين الماضيتين، ومنذ 4 آب 2020 حتى اليوم، يدرك حجم الكارثة التي نحن بصددها. عائلات بكاملها هربت من جحيم سلطة عون – «حزب الله» تاركة فراغاً مخيفاً في النسب السكانية وفي نوعية المغادرين، فإغلبهم من أصحاب الكفاءات والقدرات المميزة.

بعد التفجير بالنيترات وبالبنزين، ومع تفاقم أزماتنا ووصولها إلى الغاز وتجمع الناس وتكدسهم على مراكز توزيع هذه المادة الحيوية، فإنّ التفجير التالي سيكون في أحد هذه المراكز «الغازيّة»، ليأتي على المزيد من الضحايا ويسهم في قتل المزيد من اللبنانيين ويدفع بأعداد إضافية إلى الهجرة.

فليحذر اللبنانيون مراكز التجمع وأعمال الشغب المفتعلة وأحقاد المهرّبين وخبث المحتكرين وغياب الأمن وتشبيح الزعران، فهذا هو السياق المنتظر من مسار الأحداث المتدحرجة في البلد، حيث التلحيم والولاّعات تشعل الانفجارات، وحيث الحقائقُ تحترق مع أجساد الضحايا وحيث تجلد السلطة ذويهم وتضطهدهم وتخنق أصواتهم كلما انتفضوا للمطالبة بحقوقهم في الحقيقة والعدالة.