كتب إبراهيم الجبين في العرب اللندنية:
منذ أن بشّر الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله اللبنانيين بأنه سيحلّ عقدة الطاقة والوقود، وسيجلب من إيران سفينة تحمل الفرج لهم بعد المآسي التي وقعت بسبب شحّ الوقود وارتفاع الأسعار وما تلى ذلك من حوادث مفجعة، والمنطقة في شدّ وجذب، حول كيف سيكون رد الفعل الأميركي والإسرائيلي على هذا التحدّي العلني للعقوبات المفروضة على إيران من جهة، وعلى حزب الله من جهة أخرى.
سرّبت إسرائيل أنها ستستهدف السفينة الإيرانية كما استهدفت غيرها في عرض البحر، ثم عادت الولايات المتحدة وأفرجت عن مشروع كان رئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري هو عرّابه، ويقضي باستجرار الغاز المصري عبر الأردن وسوريا، لتعود إسرائيل وتوكل مهمة السفينة الإيرانية إلى القوات الأميركية، محمّلة إياها مسؤولية ما سيحدث في حال وصلت تلك الشحنات إلى ميناء بيروت المدمّر أو إلى ميناء طرابلس. لكن كانت هناك إشارة تقول إن تل أبيب تعرف جيدا أن شحنات وقود كانت تصل من إيران إلى النظام السوري وتفرّغ في مرفأ طرطوس وسواه، وأن هذه السفينة قد تتخذ المسار ذاته لتنقل لاحقا إلى لبنان.
لن يقدّم أو يؤخر إن كانت الشحنات الإيرانية ستذهب إلى لبنان أو إلى سوريا، فقد تمكّن حزب الله والأسد ومن خلفهما إيران من كسر حدود سايكس بيكو قبل أن يفعل تنظيم داعش في مشروعه إياه، بفتح ما سمي بمحور “المقاومة” الذي ضم العراق وسوريا ولبنان إلى وصاية الولي الفقيه الآن.
إيران لا ترى فارقا بين تمويل حزب الله في الضاحية الجنوبية ببيروت وبين تمويله في سوريا، وآخر ما يمكن لها أن تنشغل به هو التفكير في حاجة شعوب البلدين، سوريا ولبنان، إلى أبسط مستلزمات الحياة. فتقشّف الملالي عليه أن يسود ويطبع بطابعه حياة كل من يخضع لهم. المهمّ أن يستمر مشروع تصدير الثورة، بأي ثمن.
النظام السوري الذي تعامل ببراغماتية مع الإيرانيين، يجد نفسه في ورطة أكثر مما تبدو عليه الحال، فالصراع دائر على أشدّه بين حلفائه القادمين من طهران وحلفائه الآتين من موسكو، تقريبا صراع على كل شيء، المصالح والنفوذ والمطارات والمشاريع وغيرها. وهو لم يعد يملك من أمره شروى نقير، يكتفي اليوم بدور الواجهة لمشروع هجين متعدد الجنسيات يحكم سوريا. الأمر مختلف في لبنان، فالمشروع الهجين هو الذي يتصدّر الواجهة، بينما يدير حزب الله زمام الأمور من الخلف. وبتحالف ماروني شيعي بات عبئا حتى على رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل الشيعية نبيه بري.
لن تكون مجازفة إذا قلنا إن إيران تريد كسب الوقت، هي تعيد هندسة المنطقة، ديموغرافيا وأمنيا، وتستثمر في البعيد، وليست على عجلة من أمرها. وقد انتقلت تلك العدوى إلى وكلائها في المنطقة، فظنوا أن بوسعهم أن يتصرفوا مثلما يفعل خامنئي. ولن يكون خادشا مثال القصاص التركي الساخر عزيز نيسن الذي تحدّث عن الكلب الذي يمشي قرب العربة، ويظنّ أن ظلّها ظلّه. الوقت ليس في صالح نصرالله ولا الأسد، كما هو الحال مع الإيرانيين. فقواعد المنطقة التي يتحركون عليها كسكّان أصليين مختلفة عن تلك التي يواجهها الغازي الإيراني القادم من البعيد.
لحزب الله قاعدته الشعبية الشيعية من اللبنانيين، وللأسد مؤيدوه من أبناء طائفته العلوية ومن بقية الطوائف، وفي الأولى والثانية الأمور لا تبشّر السيد والرئيس، نصرالله والأسد، بالخير. فقد بدأ التذمّر يضرب تلك المجتمعات، وتكاثر التجاسر على “المقامات” وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر، باتت التسجيلات المرئية تنقل كل يوم شكاوى من هؤلاء عن سوء الأوضاع والعجز عن تحمّلها. وهذا لن يدوم هكذا، مجرّد تنفيس، بل هو تعبير أوّلي عن احتقان طويل، فالناس لا تأكل الشعارات، ولا تشرب نترات الأمونيوم، ولا تبني بيوتها بالصواريخ التي تكدّسها إيران دون أن تستعملها. وما كان بالأمس تجييشا حماسيا من أجل قضية عاطفية، بات اليوم وظيفة بمرتبات شهرية، تنتعش بتمويلها وتخبو بشح الدفع لها. وتلك معادلة لا تصنع قواعد شعبية بعد الآن.
ليس لدى إيران ما تخسره، ولدى السيد والرئيس الكثير يخسرانه في أواخر عهديهما، بعد أن ربطا مشروع الحكم والهيمنة في كلا البلدين بشخص كل منهما فإن غابا انهار المشروعان وتبددا. وحقن الغاز والنفط ليست مشاريع للديمومة، فهي في سياق إعادة ترتيب المنطقة بشكل مؤقت لا أكثر، ريثما يحصل خرق جدير بتحريك الأوضاع.
النفط الإيراني الذاهب إلى لبنان سيسير في طريق النفط اللبناني الذي يهرّب إلى نظام الأسد، الذي ستستمر حاجته إلى امتصاص قدرات لبنان كما كانت منذ أواسط السبعينات، بعد دخول جيشه إلى البلد الجار، وصولا إلى ما عُرف بعهد الوصاية الطويل، والانهيار الذي يحذّر منه ساسة لبنان وحكماؤه قادم حتى يتحطّم آخر معنى للحدود بين البلدين، تلك الحدود التي بقي نظام الأسد يماطل في ترسيمها برّا وبحرا حتى اليوم، ولن يتوقف هذا المسلسل من الاستنزاف حتى يتحول لبنان إلى محافظة سورية الحياة فيها تشبه الحياة في المناطق التي تسمّى مجازا مناطق سيطرة الأسد، وهي في الواقع مناطق سيطرة إيران.
وقد صدَق الرئيس ميشال عون إذن في نبوءته حين ردّ على سؤال الصحافيين “إلى أين نحن ذاهبون؟” فأجاب “إلى جهنّم”، وهي النعيم الإيراني الذي ذاقه العراقيون واليمنيون والسوريون دون زيادة أو نقصان.