كتبت نوال نصر في نداء الوطن:
أبعد من أحداث خلدة، وأحداث عكار العتيقة وفنيدق، وحاصبيا، والآر بي جي على محطات البنزين، وأحداث الشويفات… وأبعد من إستعلاء “حزب الله” بسلاحه وقدراته… هناك “أمل” و”سارة” و”تايونا” و”ورود” و”سهيلة” وسواهن وسواهم ممن أرداهم السلاح المتفلت. ثمة بلد راكد على كثير كثير من الأزمات والفقر والحاجة ويغصّ بناسٍ في أيديهم “دوشكا” و”كلاشنيكوف” و”آر بي جي” وسلاح من كل الأعيرة، بلا أي معايير. فهل علينا أن ننتظر رصاصة رحمة تنهي لبنان وأهله أم علينا أن نكرر السؤال، ونحن نلفظ الروح، لماذا كل هذا السلاح بين الايدي؟ من يخدم؟ من يموله من يضخّه؟ وهل يبقى السلاح في لبنان “زينة الرجال”؟
“بالسلاح يمكن الجلوس على كرسي الحكم لكن لا يمكن البقاء عليها كثيراً”… هو وسيلة تستخدم من ضعفاء لا من أقوياء. السلاح المتفلت يسود حين يسود السواد ويزول الحوار وتعمّ الفوضى. ونحن، في القعر، في الفوضى الهائلة.
فلنذهب الى عكار العتيقة وفنيدق. هناك، صاروخ آر بي جي أودى بحياة شباب في ربيع العمر. مهندسٌ ينتمي الى المذهب السنيّ قتل على أيدي أشخاص من السنّة. وعلت صرخات من سنّة تقول: من أين كل هذا السلاح؟ لماذا لم يظهر في وجه قتلة؟ نتفرج وندير وجهنا وننهمك في الأزمات الكثيرة المحيطة أم نسأل ما سألوه: من أين كل هذا السلاح؟ معين المرعبي، نائب عكار السابق، أخبرنا ما يحصل هناك، على صوت طائرات الجيش اللبناني التي تحوم في أجواء المنطقة قال: “ليس مقبولاً أن يستيقظ، بكبسة زر، كم واحد من مخلفات النظام السوري البائد ويخرج بعراضات أدت الى وقوع ضحايا بريئة ومشاهد أعادت المنطقة ومن فيها الى العصور الجاهلية”.
هل بالصدفة قام بعض السنّة بتوجيه أسلحتهم اليوم الى بعض السنّة؟ القصة وما فيها، بالنسبة الى المرعبي، هو وجود خلاف قديم في المنطقة، وحدثت محاولات متتالية لافتعال شغب، منعناها لكن الأمور تطورت اليوم. لذا المطلوب وبإلحاح إيجاد حلّ مستدام للمشكلة الكامنة في النفوس القديمة – المتجددة”. لكن، من أين كل ذاك السلاح الذي رأيناه؟ يجيب “رأينا السلاح المتوسط الموجود منذ ايام الإحتلال السوري. هذا السلاح هو من مخلفات السوري”.
ستة عشر عاماً على “دحر” السوري ولا تزال مخلفاته موجودة. لكن، هل يصمد السلاح كل هذا الوقت ويستمر صالحاً؟ يجيب المرعبي “لا شك أن لا أحد يملك حالياً إمكانيات التسلح والتسليح إلا النظام السوري أو “حزب الله”. وتصويب هذا السلاح بالشكل الذي رأيناه مرفوض ومدان ولا يقل مداه وتأثيره عن كل ما فعله “حزب الله” من خلال سيطرته على كل مفاصل الدولة. إستخدام السلاح لا يفترض أن يوجه إلا الى أعداء لبنان، أما خلافاتنا الشخصية فيفترض أن يحكم بها القضاء الذي بتقاعسه عن القيام بواجباته خلال عشرات الأعوام أبقى على جرح الخلافات مفتوحاً. يضيف: لا أريد أن أقول أن ما حدث يدخل في خانة المؤامرة. لذا الحلّ الآن هو إعلان المنطقة، التي حصل حولها الخلاف، محمية. وهذا الأمر يحتاج الى عقلاء. ثمة أشياء “جنونية” تحصل. هناك نواب في المنطقة يقفلون الطرقات على نواب يأتون بمادة المحروقات. وكلها مظاهر من إنحلال الدولة. المطلوب الإحتكام الى إرادة الجيش اللبناني. “وهرة” الجيش هي التي يفترض أن تحلّ ولا أحد آخر”.
لا يخفي أحد فوق، في أطراف الشمال، أن إبن الطائفة السنية يشعر اليوم، أكثر من أي يوم سابق، أنه مواطن درجة ثانية. فعكار التي تبلغ نسبة سكانها من السنّة 67 في المئة تشعر أن الطائفة الشيعية التي لا يزيد عددها هناك عن واحد في المئة تتحكم بها. هؤلاء، يشعرون بالقهر. وفي هذا الإطار يقول النائب السابق خالد الضاهر “التفلت أدى الى إضعاف الدولة المركزية بسبب الدويلة وسرايا المقاومة و”حزب الله” والعصابات والمنظمات والتهريب والمخدرات والمناطق الخارجة عن سلطة الدولة”.
يصرّ خالد الضاهر على “أن السلاح المتفلت موجود في كل مكان لا في عكار وحدها” ويؤكد “أن الحرب الأهلية ليست بحاجة إلا الى “كلاشنيكوف” وهذا النوع من السلاح موجود في بيوتات كثيرة، و”حزب الله” يُسلح سرايا المقاومة من كل الطوائف. وإذا استمرت الدولة غائبة عن واجباتها وفاقدة لهيبتها فهذا سيبقي “حزب الله” أقوى من الدولة. ونحن، كل مطالبنا، أن تبسط الدولة مؤسساتها وسلطتها. فهل ذلك مسموح ام هناك ممنوعات عليها؟”.
الحادث الذي جرى في اليومين الماضيين في عكار العتيقة وفنيدق سببه “تقاعس الدولة” في خصوص منطقة متنازع عليها بين المنطقتين. هي مشكلة قديمة تتجدد في كل حين. وطبيعي حين تكون الدولة متحللة والسلاح سائباً أن يحصل ما حصل.
خالد الضاهر الذي كان شاهدا على تفلت السلاح وجولات الموت بين باب التبانة وجبل محسن يتحدث عن تقاعس الدولة الهائل في الشمال “ففي البالما والعبدة ومفرق المحمرة تُقطع الطرقات دوريا من مندسين، من عشرة أشخاص على الأكثر، يدعون أنهم “ثوار”. الثورة يتم “خردقتها” هناك ويدفع الثمن الناس. وكل ما يجري لا يحصل من فراغ بل بسعي ممن يلعبون بالشارع”. ويتحدث الضاهر عن نيته بإصدار بيان بالصوت والصورة خلال يومين يحمّل فيه كل القوى العسكرية مسؤولية جولات الموت المتكررة ويقول “سأطالب هؤلاء بالإستقالة إذا استمروا بترك طرابلس وعكار لمصير أفضل ما فيه الفوضى “فالحرب يدخل فيها الكارهون”.
من يملأ الفراغ حين تغيب الدولة؟ العصابات والفوضى. ولا يختلف إثنان على ذلك. أما السلاح المتفلت، الخفيف، فبرأي كثيرين “أن كل الناس يملكونه”. والحرب ليست بحاجة إلا الى آر بي جي وكاتيوشيا لتنطلق.
ما رأي العميد الركن المتقاعد منير بجاني بظاهرة تفلت السلاح في البلاد؟
هو يراقب ما حصل في عكار العتيقة وفنيدق ويعرف الأرض جيداً ويقول “السلاح لم يُلمّ من بين أيدي اللبنانيين” ويستطرد بإضافة “الخلاف في عكار العتيقة وفنيدق عمره مئة عام. وهناك طمع من جماعة بالإستحواذ على ارض واستثمارها سياحياً. هذه الأرض موضع نزاع طويل. أما مسألة السلاح الذي رأيناه فموجود في تلك المناطق وفي مناطق أخرى أيضا وهي قائمة على عامل القوة البشرية والعسكرية”.
السلاح إذا موجود على الأرض قبل اليوم لكن، حين تتحلل الدولة، يشتد حضور السلاح. والسؤال، هل يبقى السلاح الذي بين أيدي اللبنانيين منذ ما قبل الخروج السوري صالحاً؟ يجيب بجاني “الإعتناء بالسلاح يبقيه صالحاً” ويستطرد “هناك، في المكان الذي تتنازع ملكيته كل من فنيدق وعكار العتيقة، تقع القموعة، المحميّة الساحرة، وفي المقلب الآخر للجبل، لجهة البقاع، هناك قواعد عسكرية كبيرة ومراكز تدريب ومخازن واسعة لـ”حزب الله”. وأهل القموعة الذين كانوا يصعدون الى رأس الجبل، في اتجاه مكسر المياه، مُنع عنهم ذلك. فالموقع أصبح استراتيجيا عسكرياً لـ”حزب الله”. وسهل القموعة، بحسب العميد المتقاعد، كان ايام الإنتداب نقطة فرنسية وهناك اليوم، في نفس النقطة، مخفر. ومساحة السهل واسعة جداً حتى أن هناك من قدم مشروعاً لتحويلها الى مطار. لم يجر على مرّ السنين أي مسح للبقعة. وهناك قلعة عروبة طالما كانت عبر التاريخ غاية في الأهمية. فمن يسيطر عليها يسيطر على كل المكان. ولا يمكن الوصول إليها إلا من خلال سيارات رباعية”.
ما يُخبره العميد المتقاعد يجعلنا نسأل: هل يمكن أن تكون استراتيجية هذا المكان المميزة وراء ما جرى؟ هل يمكننا التفكير بأن الخلاف التاريخي لاستثمار البقعة سياحياً بين عكار العتيقة وفنيدق ليس الوحيد الذي أدى الى اشتباكات الأمس؟ لا يريد بجاني الخوض في هذا التحليل ويشرح “السلاح في البقعة موجود منذ زمن، منذ أيام الإحتلال السوري والفلسطيني والتهريب، والأهالي يستمدون منه الأمان وطالما كانت تحدث خلافات على الحطب والنفوذ والسيطرة على الثروات الطبيعية، ففي القموعة أشجار لزاب غير موجود مثلها في كل الشرق الأوسط”.
إذا كانت المشكلة استولدها الخلاف السرمدي فما الحلّ كي لا يتكرر استخدام السلاح المتفلت؟ يجيب بجاني “الحلّ بتحويل المنطقة الى محمية تحت سيطرة الدولة وإدارتها”.
التسلّح واجب بالنسبة إلى كثير من اللبنانيين لمواجهة “السلاح الآخر”. والعكاريون مثلهم مثل القبائل يحتفظون بالسلاح “كرمال يحموا حالن”. وسلاح هؤلاء يختلف عن سلاح “حزب الله” الذي لا يُراد منه الحفاظ على الأرض والعرض والنفس بل “لمشاريع أكبر بكثير”.
ما دمنا نتحدث عن “السلاح بغير أيدي الدولة” و”المشاريع التي هي أكبر من حدود الوطن” نسأل بجاني هل يمكن أن نقرّ أن سلاح حزب الله “مقاوم”؟ يجيب “أن الإستراتيجية الوطنية تكون بالتكافل المعنوي أما أي إستراتيجية دفاعية فيها أكثر من جيش، في دولة واحدة، فمصيرها حتماً الفشل. وأي قوى تريد أن تدافع عن أرض محددة عليها أن تنتظم بصفة قوات موالية للشرعية وتعمل تحت إمرة الشرعية”.
هناك، في عكار، يتحدثون أبعد من حدود فنيدق وأكروم وعكار العتيقة، إنهم يتحدثون عن طرابلس وكل عكار وحتى كل لبنان. ومن كلمة الى كلمة يبدو أن الإصرار دائما هو على تحييد مؤسسة الجيش عن كل “الهواجس” التي يشعر بها “أهل السنة” ويجعلهم، كما الكثيرين في الوطن، يتمسكون بكاتيوشيا وآر بي جي وكلاشنيكوف ويصدرون إتهاماتهم على ما سماه خالد الضاهر “المافيا الوطنية للتهريب”.
هدأت على جبهة عكار العتيقة فنيدق لكن من يُهدئ مسار السيناريوات التي تُعدّ للبنان يحتضر؟