لم يكن أحد يتصوّر يوماً أن تتحوّل «ملائكةُ الرحمة» في لبنان أسرى «جحيمٍ» لا يَرْحم يصارعونه بـ«الرمق الأخير».
هو الجسمُ التمريضي الذي يقاوم «المَرَضَ» وتَفَشّي تداعيات الانهيارِ المالي الذي حوّل «بلادَ الأرز» بمختلف قطاعاتها حُطاماً… ممرّضاتٌ وممرّضون وكأنهم وُضعوا في «فوهةِ حربٍ» تُركوا لخوْضها، «مكشوفين» بمستلزماتِ الحماية التي بالكاد يحصلون عليها، مُنهَكين بأثقال تبَخُّر قيمة رواتبهم وبهمومِ يومياتٍ صارت كأنها صراع بقاء.
قد يكونون من قلّة تبقّت في قلوبهم رحمةً… يعضّون على الجِراح ويَمْضون في تأمينِ خدمةٍ صحية إنسانية ممزَّقين بين حياة خاصة وعائلية صارت مزنّرة بالقهر والإحباط والحاجة في كثير من الأحيان، وبين واجبٍ مهني ومعنوي تجاه المرضى أصبحت تلبيته بـ «طعْم» الانهيار الذي يفْتك بلبنان وشعبه والانكسارات التي تصل أحياناً إلى حد الرحيل وركوب أعتى موجات هجرةٍ وكأنها «الهروب الكبير».
ممرضات لبنان وممرّضوه، الذين كانوا خط الدفاع الأول بمواجهة «كورونا» وما زالوا وبلغوا «خط الموت» في وجه انفجار مرفأ بيروت الهيروشيمي الذي سقطت فيه 5 ممرضات (في مستشفييْ القديس جاورجيوس والوردية) يطلقون صرخة استغاثة فهل مَن يسمع؟
في عين العاصفة
لم تستطع «سناء» الوصول على الوقت إلى المستشفى الذي تعمل فيه وفق دوامها الوظيفي.
تأخّرتْ أكثر من ساعتين كان فيهما الغضب يتآكلها من الداخل.
سيارتها خالية من الوقود ولم يكن لديها الوقت ولا القوة لتمضية نهار استراحتها مُنْتَظِرَةً في الطابور لساعاتٍ أمام محطة الوقود، فاستحقاقاتها العائلية أهمّ وأكثر إلحاحاً.
طلبتْ سيارةَ أجرةٍ للتوجّه إلى عملها، لكنها عَلِقت في زحمة السير الخانقة التي يعيشها اللبنانيون كل صباح، لا لحركة تجارية وسياحية ناشطة، بل بسبب الزحمة الخانقة التي تشهدها محطات الوقود المنتشرة في كل الشوارع.
وحين وصلتْ أخيراً إلى المستشفى فوجئت بما يتوجب عليها دفْعه لسيارة التاكسي، فالقيمة أكثر من أجرة يوميْ عمل… دخلتْ محبطةً، غاضبة متعبة لكنها خلعتْ عنها هذه الأثواب لتقابِل مرضاها بكل ما أوتيت من صلابة مهنية ولطْف إنساني.
جانين، لم تشأ أن تضيع سنوات دراستها الطويلة وسنوات الخبرة المديدة التي أمضتْها في التمريض بين أكثر من مستشفى جامعي عبثاً، وهي تنال راتباً يكاد لا يكفيها لإعالة أطفالها وإعانة زوجها.
صار العملُ في المستشفى وكأنه عَمَلٌ تطوّعي مجّاني مع تَراجُعِ قيمة الراتب إلى أدنى حد.
قدّمت أوراقها إلى مكتب خاص يعنى بهجرة الممرّضات، وما هي إلا فترة قصيرة حتى تم تأمين عمل لها في دولة قطر براتب مُغْرٍ جداً وظروف عمل مثالية.
لم تفكّر، لم تتردد، ووضعت الزوج والأولاد في عهدة حماتها وهاجرت لتؤمّن لهم مستقبلاً أفضل.
وتطول قصصُ الممرضات والممرضين في لبنان الذين وجدوا أنفسهم في عين العاصفة وسط ظروفِ عملِ قاسية مجحفة وغير آمنة.
المستشفياتُ تئنّ وقد باتت غير قادرة على تأمين رواتب موظفيها نظراً لِما لها من مستحقات على الدولة اللبنانية والجهات الضامنة غير مدفوعة.
ومستلزماتُ الحماية التي تؤمن صحة الممرّض وتبعد عنه شبح الإصابة بفيروس كورونا وغيره من الأمراض باتت شحيحة.
القفازات، الأقنعة، سوائل التعقيم والملابس الخاصة، كلها مقوْننة بما يترك الممرضين في مهب التقاط العدوى في أي وقت.
وحتى الأدوية والأمصال والمستلزمات الطبية التي تحتاجها المستشفيات لمعالجة مرضاها صارت شبه مفقودة ما يفتح الباب على مواجهات مؤلمة مع المرضى وأهلهم ويضع الضمير المهني في أزمة حقيقية.
وشكّل انقطاعُ أدوية السرطان عبئاً ثقيلاً على أكتاف الجسم التمريضي، ما دعا نقيبة الممرضات والممرضين المنتخبة حديثاً الدكتورة ريما ساسين قازان للتضامن مع وقفة أطباء السرطان وإطلاق صرختها معهم، قائلة «زادت أزمة الدواء التي نشهدها اليوم من معاناة المرضى وفاقمت قلقَهم ومخاوفهم على مصيرهم وانعكس ذلك سلباً على نفسيتهم ومعنوياتهم، وللأسف لا نرى في الأفق حلولاً جدية وجذرية فنحن نسير نحو الأسوأ».
وأكدت «وقفتُنا التضامنية معكم تؤكد على استمرارية التعاون والدعم للمرضى وأهلِهم، وللأطباء المختصين في داء السرطان وللجمعيات التي تمثل المرضى.
وهي صرخة نطلقها سوياً للأشخاص المعنيين كي يبادروا لإيجاد الحلول المناسبة لتأمين دواء السرطان فنعيد الأمل والبسمة لهولاء المرضى ولعائلاتهم ولبنان».
أزمات متلاحقة
الطرد التعسفي خطَر جاثم ومتوقَّع في أي وقت من مستشفياتٍ متهالكة أنهكها الوضعُ الاقتصادي رغم كل ما تقوم به نقابة الممرضات والممرضين للحدّ منه ومنْع حدوثه.
دوامات العمل الطويلة المرهقة عبءٌ طاحن يَقضي على طاقة الممرض والممرضة ويستنزف قواهما.
ففي ظل هجرة أكثر من 1600 ممرضة من أصحاب الكفاءات العالية بات الحِمْلُ ثقيلاً جداً على مَن تبقى والحاجةُ كبيرةً لتلبية النقص الحاصل.
الرواتب صارت توازي أقل من 100 دولار للممرضة المجازة وأقلّ منها بكثير للممرضة المتخرّجة في معهد مهني.
وحتى تَقاعُد نهاية الخدمة الذي تحصل عليه كل ممرضة بعد بلوغها السن القانونية والذي كان من الممكن أن يوفّر حياة كريمة بعد التقاعد لم تَعُد له قيمة مادية تُذكر وبات رقماً لا يغني ولا يسمن.
من هنا كانت الصرخة عالية من النقيبة قازان وقبْلها النقيبة السابقة الدكتورة ميرنا ضومط للمطالبة بحقوق «ملائكة الرحمة» وتأمين ظروفِ عملٍ لائقة تُبْعِدُ عنهم الإجحافَ الحاصل.
النقابة ترفع الصوت
في حديث لـ«الراي»، قالت ساسين بالصوت العالي، إن «الممرضة تعاني، والظروف صعبة صعبة. منذ 2017 ونحن نرفع الصوت للمطالبة بتحسين ظروف العمل ورفْعِ الحدّ الأدنى لأجور الممرضات المجازات وخريجات معاهد التمريض.
وقدّمنا اقتراحاتٍ حول دوامات العمل والمكافآت والحوافز والتقديمات التي تحسّن من وضع الممرضات وتعوّض عليهن التعب الكبير الذي يبذلنه.
لكن الاقتراحات لم تتحوّل إلى قوانين، بعض المستشفيات أخذ بها فيما البعض الآخَر لم يتجاوب معها.
اليوم صار الحد الأدنى للأجر أقلّ من 100 دولار وهو أمر غير مقبول ولا يمكن أن يستمر، لا بد من إعادة تحديد سلسلة الرواتب مع خبير مالي ليتمّ بعدها مناقشتها مع المستشفيات، إضافة إلى معاودة درس الدوامات والعلاوات والتقديمات.
وعلى المستشفيات اعتبار حقوق الممرضة من الأولويات عندها».
الهجرة سيفٌ مصلت على الواقع التمريضي في لبنان، ويكاد أن يتحوّل جائحة حقيقية أشدّ فتْكاً بالنظام الاستشفائي والتمريضي من أي جائحة أخرى.
فمَن يهاجرون هم أصحاب الكفاءات العالية والخبرات المهمة التي يحتاج إليها لبنان في هذه الظروف الصعبة، لكنهم يجدون في الخارج، في بلدان أوروبا وكندا والخليج، شروطاً أفضل بكثير تساعدهم على تأمين مستقبل أكثر إشراقاً لهم ولعائلاتهم.
«لسنا قادرين على اجتراح المعجزات وحدنا»، تؤكد النقيبة «لكن بالتعاون مع المستشفيات ووزارة الصحة وحتى مع بعض القطاعات الأخرى يمكننا تأمين ظروف أفضل.
خفْض ساعات العمل، تحسين بيئة العمل وتأمين بيئة آمنة، تفعيل خدمات صندوق التعاضد من أجل تأمين ضمان صحي واجتماعي، تغذية موارد صندوق تقاعد الممرضات والممرضين بغية تأمين معاش تَقاعُدي لائق، تأمين حسومات مالية من قطاعات تجارية مختلفة للممرضات والممرّضين… هذه مطالب نضغط من أجل الحصول عليها لأن القطاع التمريضي هو ركن أساسي من القطاع الصحي في لبنان وإذا انهار انهار معه الهيكل».
ومع الاشتداد الدراماتيكي لأزمة الوقود، أطلقت النقابةُ صرخةً عالية النبرة ناشدت فيها جميع المعنيين ولا سيما قيادة الجيش والقوى الأمنية إضافة إلى المحطّات والشركات المستوردة اتّخاذ الإجراءات لتسهيل تزويد سيارات الممرضات والممرضين بالوقود من دون الانتظار بعد إبرازهم بطاقتهم النقابية، أو تخصيص محطات لهذه الغاية من أجل دعم استمرارهم في خدمة المرضى والمصابين كأولوية في هذه المرحلة الصحية الدقيقة وإلا فإن حياة المرضى تصبح عرضة للخطر.
معاهد التمريض طاقات مشرّفة
منذ أن عُرف لبنان كمستشفى الشرق، تَمَيَّزَ فيه الدورُ التمريضي إلى جانب الدور الصحي، وباتت جامعته من أهمّ الجامعات في العالم في تخريج ممرضات حَمَلة إجازة جامعية، وصارت سمعتهن مشهورة في العالم أجمع. كذلك شكلت معاهد التمريض رافداً مهماً لتزويد لبنان بممرّضين وممرضات أصحاب كفاءة.
وتؤكد النقيبة ساسين لـ«الراي» أن «العملَ جار حالياً على وضْع معايير عالية لتعليم التمريض لتأمين جودة التعليم وتوحيد المستوى بين المعاهد المختلفة بهدف ضمان تخريج أفضل الممرّضين والممرّضات ولا سيما أن لبنان بحاجة إلى عدد أكبر من الخريجين لتعبئة الفراغ الذي تركتْه هجرة الكثيرين».
باختصار تشرح النقيبة دور الممرضة قائلة: «حضورٌ إنساني متميّز، خبرةٌ في التثقيف الصحي، مهاراتٌ وخبراتٌ سريريةٌ كبيرةٌ، ودورٌ أساسي في مواجهة الأزمات التي عصفت بوطن الأرز ومنها جائحة كورونا، انفجار مرفأ بيروت وتدهور الوضع الاقتصادي العام.
وسط هذه الأزمات، شكّل الممرضات والممرضون في لبنان خطّ الدفاع الأول، وهذا كلّه تَطَلَّبَ منهم لعب دورٍ محوريٍ في الفريق الصحي في سبيل الوقاية وتعزيز صحة الفرد والمجتمع، مع ضمان استمرارية جودة العناية التمريضية.
ولكنهم في المقابل وخلال تأديتهم لعملهم تَعَرَّضوا لمخاطر صحية كبيرة وإجحاف في حقوقهم ما جعل النقابة تتحرك وتكثّف اتصالاتها مع المعنيّين لحمايتهم وتطوير بيئة عملهم والسعي إلى حماية المهنة».
«بالتعاون والتواصل منطوّر مهنتنا وبيئة عملنا»، شعارٌ اختارته النقيبة للمرحلة المقبلة والذي من خلاله تهدف النقابة للعمل وفق برنامجٍ متكاملٍ على أمل أن تجد الصرخات المتواصلة مَن يسمعها، وأن يعطي العملُ الحثيثُ النتائجَ المرجوة التي تساهم في عودة لبنان «مستشفى الشرق» وإلا فالويل من سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.