كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
لم يعد بالإمكان الكلام عن ثورة في لبنان، فثورة 17 تشرين تحوّلت إلى نقمة وغضب وقرف، لكنّ الانتفاضة التي عَمّت المناطق والساحات اللبنانية انتهت بالشكل الذي انتهت إليه.
لا يصحّ الكلام عن انتفاضة وثورة في الوقت الذي خرجت فيه الناس من الشوارع والساحات وفي اللحظة التي أكثر ما يحتاج فيها الوضع إلى ثورة، لأنه عندما انطلقت الانتفاضة كانت الأوضاع أفضل بكثير ممّا هي عليه اليوم مالياً وصحياً ومعيشياً، فلم يكن الدولار قد حَلّق إلى هذه المستويات، ولم تكن الناس تَصطفّ في صفوف الذلّ أمام محطات الوقود والصيدليات والأفران. وبالتالي، إذا كان هناك من توقيت للثورة فالتوقيت الحالي هو أكثر من مِثالي بسبب حالة الذل والقهر التي يعيشها المواطن اللبناني.
وما حقّقته انتفاضة 17 تشرين قد حققته، وانتهى عند هذه الحدود. وما تَحقّق هو استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية، واستبعاد حكومات التكنو-سياسية لمصلحة حكومات اختصاصية ولكن حزبية وغير مستقلة، بالإضافة طبعاً إلى أمور أخرى. إلّا أنه على المستوى السياسي لم تتمكّن هذه الانتفاضة من فَرض إيقاعها بمطلب تغييري أساسي من قبيل تقصير ولاية مجلس النواب.
وتأسيساً على التجارب اللبنانية فالناس تثور وتنتفض لكنّ نفسها قصير جداً، فلا تبقى في الساحات إلى أمد طويل، وتفضِّل تسليم الدفة لمَن هو قادر على حَمل مطالبها. وهذا ما حصل مع انتفاضة 14 آذار التي شهدت ثورة مليونية قبل ان تسلِّم الناس زمام القيادة لحركة 14 آذار، ومع مرور الوقت والمواجهات والحكومات والاغتيالات مَلّت الناس وابتعدت شيئاً فشيئاً عن هذه الحكومة التي راحت تتفكّك تدريجاً.
لكنّ الانجازات التي حققتها 14 آذار لا تُقاس بإنجازات 17 تشرين، وذلك بدءاً من إخراج الجيش السوري من لبنان، مروراً بنشوء أكثرية جديدة نيابية ووزارية، وصولاً إلى إنشاء المحكمة الدولية وقيام توازن رعب حقيقي، واضطرار «حزب الله» إلى استخدام سلاحه من أجل فَرمَلة تمدد مشروع الدولة الذي رفعته هذه الانتفاضة.
والفارق بين الانتفاضتين يكمن في انّ الأهداف التي حملتها الأولى كانت سيادية بامتياز، وموضع انقسام تاريخي في لبنان ويشكّل المعضلة والحاجز الأساس أمام قيام الدولة. فيما الأهداف التي حملتها الثانية كانت معيشية بامتياز ولا خلاف حولها بين اللبنانيين، وكل فريق يستطيع ان يُزايد بِحَملها والدفاع عنها، علماً انّ الطريق واحدة لتحقيقها وهي قيام الدولة.
وهذا الفارق ليس بسيطاً، أقلّه في الشكل، لأنّ الموضوع السيادي يمثّل جوهر الخلاف وعمقه والانقسام حوله، فيما مَن يتظاهَر معيشيّاً يمكن ان تقف حدود مطالبه عند السقف المعيشي من دون ولوج لُبّ الأزمة الوطنية المتعلقة بسلاح «حزب الله»، وهذا ما يفسِّر تَعدّد المجموعات التي شاركت في انتفاضة 17 تشرين أو التي ولدت من رحمها، والتي تبدأ من أقسى اليسار إلى أقسى اليمين وما بينهما، من دون ان يكون هناك مبادئ وطنية جامعة حول دور الدولة السيادي وإدارتها الشفافة.
ولم تنجح 14 آذار في تشكيل إطار جَبهوي إلا بسبب وحدة موقفها من سلاح «حزب الله»، وهو الملف الانقسامي الأساسي بعد مسألة وجود الجيش السوري في لبنان. فيما لم تتمكن 17 تشرين من تشكيل إطار جَبهوي مماثِل بسبب غياب الأهداف الوطنية المشتركة، إذ لا يكفي الاتفاق على تشخيص الوضع المالي والاقتصادي والمعيشي الكارثي، إنما يجب الاتفاق على رؤية مستقبلية للبلد تبدأ من الدولة ودورها السيادي، وهذا ما يفسِّر قيام مجموعات متفرقة بأسماء مختلفة لا جامع بينها سوى سعيها لإثبات نفسها وقدرتها والولوج إلى الندوة البرلمانية باسم الثورة.
فلم تنجح 14 آذار حيث نجحت سوى بسبب وجود قوى حزبية وازِنة حملت أهداف هذه الانتفاضة وخاضَت مواجهاتها على أساسها، الأمر الذي لا ينطبق على 17 تشرين التي لم تنجح في تشكيل إطار جبهوي واحد يضمّ قوى حزبية وازنة قادرة على إقامة توازن رعب وإطلاق دينامية سياسية تغييرية.
وإذا كان لم يبق من 14 آذار سوى الأهداف والعناوين والشعارات التي كانت قبل هذه الانتفاضة وتستمر بعدها، إلّا انّ قوتها تمثّلت في وحدة صفوفها ضمن إطار جبهوي لا فقط بأهدافها، فإنّ 17 تشرين انتهت مع خروج الناس من الشارع وعدم قدرتها على توحيد صفوفها ضمن إطار جبهوي واحد، والعناوين التي رفعتها كانت محط شكوى الناس قبل الانتفاضة وهي محط شكواهم اليوم أكثر من اي يوم مضى.
فيمكن لأيّ فريق سياسي ان يحمل أهداف انتفاضة 14 آذار و17 تشرين، لكنّ حَمل هذه الأهداف لا يُبدِّل شيئاً على أرض الواقع وفي المشهد السياسي ما لم يُصَر إلى تشكيل إطار جبهوي يضم قوى وازنة قادرة على التغيير، وما لم ينشأ هذا الإطار واستمرت الفوضى السياسية، فإنّ التغيير صعب التحَقُّق، خصوصاً في ظل المزايدات القائمة وشعارات عقيمة من قبيل «كلن يعني كلن»، والتي تُشكّل أكبر خدمة لـ»حزب الله» الذي يخشى نشوء إطار جبهوي لقوى وازنة، وأقصى ما يريده هو هذا الحقد الذي تبثُّه بعض المجموعات التي تدّعي تمثيلها لانتفاضة 17 تشرين، لأنه من خلال هذا الحقد يحول دون الوصول إلى وحدة موقف وصف في مواجهة مشروعه، ولأنّ المجموعات التي تحمل هذا الشعار غير قادرة أساساً على مواجهته، وبالتالي تُقدِّم له أكبر خدمة، فيما هذه المجموعات لا تكترث لذلك، لأنّ أهدافها المعلنة هي مواجهة الحزب، فيما أهدافها المضمرة تنحصِر في الدخول إلى جنة السلطة لا أكثر ولا أقل.
ولكن ماذا عن الناس التي انتفضت في 14 آذار و17 تشرين؟ هل هي في وارد تجديد انتفاضتها بنسخة ثالثة؟ لا يبدو لغاية اللحظة ان ثمة مؤشرات لانتفاضة ثالثة بنسخة جديدة، علماً انه لو وضعت 17 تشرين هدفا واحدا هو إسقاط مجلس النواب من أجل انتخابات نيابية مبكرة لكانت قَلبت المشهد السياسي في لبنان رأساً على عقب، واستفادت من المومنتم الشعبي وقادت عملية التغيير، إلّا أنّ عدم جهوزية بعض المجموعات داخلها لخوض الانتخابات، وتَبديتها مصالحها على المصالح الوطنية، حالا دون رفع هذا العنوان ووضعه كهدف أوحد يؤدي إلى تجديد السلطة، لأنّ كثرة الأهداف ككثرة الطباخين تُفسد الطبخة.
وهذا من الأخطاء المميتة التي ارتكبتها انتفاضة 17 تشرين ومن يقف خلفها، ويجب ان يُحاسَب من حال دون هذا الهدف، لأنه ما بين عملية الاختراق التي حصلت للانتفاضة من قوى 8 آذار، وبين مصالح المزايدين في هذه الانتفاضة، تمّ تضييع الهدف المركزي المتمثِّل بتغيير السلطة عن طريق الانتخابات المبكرة، حيث كان يجب توجيه الناس باتجاه تقصير ولاية مجلس النواب وليس استقالة البعض من هذا المجلس لأسباب انتخابية.
فحركة 14 آذار كانت انتهت في 14 لو لم تنجح بانتزاع الأكثرية النيابية التي مَكّنتها من تحقيق خطوات مهمة وطنياً، وذلك بمعزل عن الانتكاسات والخيبات وما لم تتمكّن من تحقيقه، الأمر الذي لم تنجح 17 تشرين في تحقيقه من خلال وضعها هدفاً أوحد هو الانتخابات المبكرة.
فلكل هذه الأسباب وغيرها انتهت 17 تشرين حيث انتهت، ولكن يبقى التحدي الأساس في اقتراع الناس في الانتخابات النيابية تحقيقاً لما لم تنجح في تحقيقه انتفاضتي 14 آذار و17 تشرين، وألا تتّجِه نحو المقاطعة يأساً وإحباطاً في ظل ماكينة تعمل على تشجيع الناس لعدم الانتخاب من زاوية انّ الانتخابات لا تبدّل شيئاً في المشهد السياسي، وهذا خطأ كبير يرتقي إلى مصاف الخطيئة، كما انّ التحدي الآخر يكمن في طريقة اقتراع الناس ولمَن ستقترع تحقيقاً لهدفها بقيام دولة في لبنان.