IMLebanon

الإفلاس السيادي

كتب د. ميشال الشماعي في نداء الوطن:

يعاني لبنان ما يعانيه بفعل عدّة إفلاسات، لعلّ أبرزها الإفلاس السيادي لأنّه الأخطر، وهو بحدّ ذاته استجرّ على لبنان الإفلاسات الأخرى. فلا يمكن معالجة أيّ إفلاس آخر قبل معالجته. لكن كيف نعالج الإفلاس السيادي في ظلّ وجود شريحة واسعة من إخوتنا في الوطن، لا في الوطنيّة، وهم مقتنعون حتّى هذه اللحظة بأنّ لبنان ليس وطنهم لأنّهم بنظرهم ينتمون إلى أمّة أكبر منه؟ وهل ننجح بمعالجة هذا الإفلاس مع ناس باعوا أنفسهم وضمائرهم لقاء مكاسب رخيصة؟ كيف ستتمّ مكافحة الإفلاس السيادي مع جماعة لبنانيّة، السيادة عندها ليست حتّى في سلّم الأولويّات لأنّ هدفها الأساس هو تعميم وتشويه صورة الكلّ “قشّة لفّة” ليوجِدوا مكانًا لهم في جنّة السلطة وليس حتّى في الحكم؟

للحقّ وللحقيقة، لا تنجح أيّ ثورة في أيّ بلد يتنازل شعبه عن السيادة الوطنيّة، ولنا في تاريخ الشعوب أنموذجات كثيرة، لعلّ أبرزها في المجتمعات الأوروبيّة التي تخلّت عن سيادة أوطانها لحساب سلطة الملك، فكلّما كانت تثور على طاغية وتزيله كان يأتيها طاغية أخطر من الذي سبق. فلم تعرف الاستقرار السياسي حتّى استطاعت هذه الشعوب أن تؤسّس أوطاناً سيّدة حرّة مستقلّة؛ وأنشأت لهذه الغاية نظريّة العقد الاجتماعي التي تحكم العالم سياسيّاً اليوم.

من هذا المنطلق، نقارب مسألة الفساد السيادي الذي ضرب العقليّة اللبنانيّة وكان السبب في إطالة سبحة الفساد وعدم انفراط عقدها. فلا يمكن أن نكافح الفساد السيادي في بلد وصل فيه حزب ليتحوّل إلى منظّمة، بكلّ ما للكلمة من معنى، لا تعترف بالوطن. أعني هنا “حزب الله” الذي أعلنها مراراً وتكراراً أنّه ينتمي إلى الأمّة الإسلاميّة التي يتولّى الحكم فيها الوليّ الفقيه. وليس انتقادنا هنا انتقاداً دينيّاً، إنّما هو انتقاد سياسيّ بامتياز. فلا شأن لأي إنسان مَن يعبُد أخوه الإنسان، أو حتّى كيف يعبد مَن يؤمن به. فالعلاقة التي تجمع الإنسان بخالقه هي علاقة عموديّة، بينما العلاقة التي تجمع الإنسان بأخيه الإنسان هي علاقة أفقيّة. هذه نظرة خاصّة لفلسفة الحياة.

فلا يمكن لنا كلبنانيّين كيانيّين نعلي الحرّيّة فوق أيّ مبدأ أن نقارب مسألة بناء الأوطان من دون السيادة والانتماء السيادي. إن لم ينتمِ حزب سياديًّا إلى لبنان فهذا يعني أنّه كمكوّن من مكوّنات لبنان السياسيّة، وليس الحضاريّة لأنّ المكوّن الشيعي هو المكوّن الحضاري ولا يختصَرُ بحزب أو بحركة؛ كمكوّن سياسيّ سيضرب جوهر قيام الدّولة في صلب عقيدته السياسيّة. ولا نخفي سرًّا بما يجاهر هو نفسه. المطلوب منه أن يعلن انتماءه لبنانيّاً بغضّ النّظر عن أيّ بعد ديني أو إيماني له، فهذا شأن خاص ونحترمه؛ لكن الشأن الوطني يعني الوطنيّين كلّهم وليس فئة واحدة. ومن ليس معنا فهو علينا.

أمّا بالنسبة إلى الذين يقرّرون في غفلة وطنيّة من الزمن بيع أنفسهم في أسواق النخّاسين فلا يمكن القبول بأيّ شراكة وطنيّة معهم لأنّ مَن يبيع ذاته لن يكون صعباً عليه أن يبيع وطنه. والحمدلله في وطننا هؤلاء هم كثر. ومن المفارقة أنّ هذه الحالة باتت تشكّل مَرَضاً وطنيّاً. حتّى مفهوم المرض بالنسبة إلى هؤلاء تمّ تحويله إلى حالة وطنيّة اجتهدوا بتبرير عوارضها طيلة أكثر من ثلاثة أجيال تربّت على الحقد والكراهية. وليس عيباً أن تكون مريضاً لكن المعيب هو أن ترفض العلاج. وطالما هذه الفئة رافضة العلاج من النقص السيادي لديها لن نستطيع بناء وطن واحد يجمعنا معها. وبالطبع مَن ليس معنا فهو علينا.

أمّا أولئك الذين يعملون بدأبٍ دون كلل وملل لاغتيال شخصيّة الأحزاب السياسيّة على قاعدة أنّهم وحدهم المنقذون من الضلال، فيكفي أن نطلب من هؤلاء مشروعاً سياسيّاً واحدًا غير الوصول إلى السلطة، على قاعدة “قوم تَ إقعد مطرحك”. والمضحك المبكي فيهم هو عدم اعترافهم بتركيبة الدولة والسيادة فيها للوصول إليها. وهنا قمّة الإفلاس السيادي. يستخدمون الوجع الإنساني ليجعلوه مطيّتهم السهلة لتشويه صورة الكلّ ظنًّا منهم أنّهم يبنون صورة جيّدة لهم. فالوصول إلى الحكم هو المشروع وليس الوصول إلى السلطة. وهنا التمايز الذي وجب لحظه. ولا يمكن بناء دولة مع مَن لا يولون السيادة أيّ اهتمام. فهؤلاء حتماً يرفضون الإصلاح السيادي لأنّه ليس حتّى في أجندتهم. فهم ليسوا معنا، ومن ليس معنا فهو حتماً علينا.

أمام هذا الواقع السيادي المفلس لا يمكن لا حتّى تشكيل حكومة ولا حتّى مجرّد إدارة بلد. وهذه نتيجة للواقع وليس تحليلاً أو استنتاجاً فحسب. وعلى ما يبدو أنّ الإفلاس السيادي صار واقعاً مقبولاً عند مختلف الفئات اللبنانيّة. ولا يتمّ التطرّق إليه إلا ترهيباً من شيء أو ترغيباً بشيء. وفي الحالتين هذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ هذه المنظومة بريادة هذه المنظّمة لا تريد السيادة إطلاقاً، وهذا يعني بدوره انحلالاً لجوهر قيام الوطن خدمة لمشروع أكبر تضمره المنظّمة وتعلنه المنظومة. فإن يعلم هؤلاء كلّهم بالجريمة التي يرتكبونها بحقّ الوطن فهذه خطيئة؛ وإن لا يعلمون فهي خطيئة أصليّة لا يمكن غفرانها حتّى انقضاء الدّهر. ومن له أذنان للسماع … فليسمع !