كتبت جويل رياشي في الأنباء الكويتية:
تعم الفوضى اليوميات اللبنانية، اذ يجد المواطن نفسه مشتت الذهن بين تدبير أموره في المحروقات ومصادر الطاقة من تيار كهربائي وخدمة المولد، الى تأمين مياه الشرب وتلك المخصصة للاستعمال المنزلي، فضلا عن الدواء والرغيف.
وليس سرا ان المحروقات وخصوصا مادة البنزين هي عصب حياة المواطن، اذ تمكنه من التنقل لإنجاز أعماله وتدبير أموره. والأخيرة باتت نادرة، ويستوجب الحصول عليها تأمين معارف من أصحاب المحطات والعاملين عليها و«المفاتيح»، الذين باتوا في بعض المناطق أقرب الى «الفتوات» في حكايات الحارة في أدب نجيب محفوظ.
يوميات ثقيلة، تغيب معها بوادر حلول لأزمات تتراكم وتستعر، وتبلغ حدا غير مسبوق، تخطى مآسي أيام الحرب الأهلية القاسية، التي تقدم فيها الخطر العسكري على ما عداه. الجبهات هنا، في هذه الحقبة، باتت داخلية وتحمل معها نعرات مناطقية، كالدعوات الصادرة عن أهالي مناطق يطالبون فيها بمنحهم الأفضيلة في تعبئة الوقود من المحطات الواقعة في دائرة سكنهم الجغرافي…
من جهة اخرى، بدأت تلوح في الأفق مظاهر أمن ذاتي ـ مناطقي، بانتشار رؤساء بلديات ومخاتير على محطات الوقود، لمنح الأفضلية لأبناء مناطقهم، اي دوائرهم الانتخابية. في حين عمدت بلديات مثل فاريا (أعالي كسروان في محافظة جبل لبنان) والغازية (الجنوب) وغيرهما الى الطلب من الأهالي تسجيل سياراتهم لدى أمانة سر البلدية، من أجل الحصول على قسيمة تخولهم تعبئة الوقود اسبوعيا من محطات في مناطقهم. بينما ناشد رئيس بلدية جبيل وسام زعرور في كتاب رسمي وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال، السماح لرؤساء البلديات في قضاء جبيل بتنظيم تعبئة الوقود لأبناء المناطق بعد منحهم الأفضلية. كتاب لم يرد عليه وزير الداخلية «الغائب عن السمع». وتجدر الاشارة ايضا الى ان بعض سكان الاحياء النائية استعانوا بخدمات شركات امن خاصة لمكافحة ظاهرة سرقة السيارات وغيرها.
وبالعودة الى محطات البنزين، اختار صاحب محطة «توتال» في عمشيت يوسف باسيل منح زبائنه «بطاقة أفضلية» لتعبئة الوقود في وقت غير مخصص لخدمة العموم، مع اعتماد الخدمة الذاتية عبر ماكينة الكترونية موضوعة على مدخل المحطة. وهذه تجربة كانت الأكثر احترافية، بعيدا عن الكلام المناطقي.
الا ان اللافت ما بدأ يتناهى عن قيام مجموعات من المتطوعين ينتمون الى أحزاب وتيارات سياسية بـ«تسهيل أمور المواطنين من أبناء مناطقهم على محطات الوقود وأفران الخبز وغيرها.. ولم يتوان نجل نائب معروف في حزب عريق، في الحديث في مجلس خاص عن قيام الحزب الذي ينتمي اليه بتنظيم شؤون المواطنين في منطقة معينة اشتهر بتسيير أمورها في الحرب الأهلية».
في الظاهر نفي لـ«الإدارة المدنية»، أما على الارض، فمن يعرف مسؤولا في حزب او حتى «فتوة»، بات يستطيع الوصول الى سبيل لملء خزان سياراته بالوقود دون تكبد «ذل الانتظار».
ويدرك اللبنانيون ان ظاهرة تخزين المحروقات سترتفع، ذلك ان الدعم الجزئي لأسعار الوقود وقتي وينتهي مفعوله في أيلول المقبل. ويتوقعون ان تستعر الأزمة منتصف الشهر المقبل كحد أقصى، تحت ذريعة نفاد الأموال المخصصة لدعم أسعار الوقود والمحددة بسقف قدره 225 مليون دولار أميركي.
كذلك وفرت السلطات اللبنانية عن غير قصد، فرص عمل لمن باتوا يعرفون بـ«تجار غالونات الوقود»، الذي يرابضون على المحطات للحصول على الوقود بغية سحبه من سياراتهم او دراجاتهم النارية، تمهيدا لبيعه بالغالونات بأسعار السوق السوداء. وهؤلاء باتوا يوفرون دخلا يناهز الخمسة ملايين ليرة لبنانية شهريا، بعدما كانوا معدمين وفي عوز دائم حتى الأمس القريب. وبات السؤال المطروح: من يستطيع إبعاد هؤلاء عن محطات الوقود، والتخفيف تاليا من طوابير الانتظار الطويلة؟
وقد وصل بهم الامر الى بيع الدور في طابور الانتظار للراغبين ولوج حرم المحطات، لقاء بدل مالي لا يقل عن 150 و200 الف ليرة لبنانية، اي ما يعادل ثمن صفيحة بنزين في السوق السوداء.
الفارق يتسع في النظرة الى تأمين الضروريات بين مواطنين يتمسكون بالأنظمة، وآخرين ينتصرون لـ«الأمر الواقع» وصولا الى الإدارة المدنية التي قد تسفر لاحقا عن «أمن ذاتي» للحماية من السرقات وأعمال الشغب في مناطق لطالما كانت تنعم بالأمان وبقيت خارج دائرة التجاذبات الأمنية الآنية. يحذر البعض من تفاقم هذه الظاهرة معتبرين ان منزلقاتها ستكون خطرة على تركيبة المجتمع اللبناني، في حين يقلل البعض الآخر من حجم الخطر، من دون ان يجزموا بأن الامور سليمة و«على ما يرام».