كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
نجح نادي رؤساء الحكومات في التحوّل إلى المرجعية السنية الأبرز، خصوصاً انّ الرئيس سعد الحريري، الذي يترأس تيار «المستقبل» بحَيثيته السنية الأكبر، هو عضو فيه، ولكن يبدو انّ دور هذا النادي يقتصر على إطلاق المواقف الآنيّة التي يتحدّث معظمها عن الصلاحيات بعيداً عن مقاربة جوهر الأزمة في لبنان وطريقة الخروج منها.
الدور الذي انتزَعه نادي رؤساء الحكومات لنفسه يقتصر حتى الآن على الجانب المعنوي كإطارٍ جامع لشخصيات تبوّأت أرفع موقع سياسي في الدولة اللبنانية، الأمر الذي حَوّله إلى مرجعية وخَوّله منح غطاء وشرعية. صحيح انه ليس حزبا ولا تيارا، لكنه تجمّع فرضَ نفسه وإيقاعه انطلاقاً من طبيعة تكوينه، غير انّ الرئيس الحريري يتفرّد داخله بقيادة أكبر تيار داخل البيئة السنية.
ويمكن تجزئة البيئة السنية إلى 3 فئات أساسية:
الفئة الأولى: تيار «المستقبل» الذي يعتبر الوحيد مبدئياً صاحب التمثيل العابِر للدوائر السنية، وعلى رغم تراجع وضعيته في السنوات الأخيرة لمجموعة اعتبارات وعوامل، إلا انه ما زال الأقوى حتى إشعار آخر.
الفئة الثانية: الشخصيات المستقلة التي تستمد حيثيتها من حضورها المناطقي وخدماتها وعلاقاتها ونفوذها، وهي تتوزّع بين الشخصيات التي تنتمي إلى خط 8 آذار، وبين الشخصيات التي تنتمي إلى خط 14 آذار. والجدير ذكره انّ التمثيل السني التاريخي هو تمثيل مناطقي لشخصيات أدّت أدواراً وطنية مهمة، ولم تكن تبحث عن تمثيل أوسع من دائرتها، وقد يكون مَردّ ذلك إلى سببين: عدم انشداد البيئة السنية تاريخياً للأحزاب والتيارات خلافاً للبيئات الأخرى، وباعتبار انّ الحَيثية المناطقية تشكّل بطاقة مرور إلى البرلمان والسرايا الحكومية.
الفئة الثالثة: تضمّ الحالة المنبثقة من الثورة والتغيير ولا تجد نفسها في تيار «المستقبل»، ولا تحصر نفسها في الإطار المناطقي التقليدي. لكنّ هذه الحالة التي برزت جزئياً في انتفاضة 14 آذار، وبشكل أوسع في انتفاضة 17 تشرين، يَصعب تقدير حجمها الشعبي ومدى قدرتها على ترجمة التأييد لتوجهاتها في صناديق الاقتراع.
وهذه الصورة للبيئة السنية تؤشّر إلى تعددية حقيقية، وفي سياق هذه التعددية ما زال «المستقبل» الأقوى شعبياً، ويحظى نادي رؤساء الحكومات بالشرعية الأكبر معنوياً، ولكن يُلاحَظ انّ هذه الطائفة، التي أدّت أدوارا طليعية في 3 محطات أساسية (اتفاق الطائف، مع الشهيد رفيق الحريري، وفي زمن 14 آذار)، في حالة انكفاء وانعدام وزن لأربعة أسباب رئيسية:
السبب الأول: إفتقادها للدور الطليعي الذي أدّته في زمن الطائف والحريري الشهيد و14 آذار، فباستثناء مطالبتها بتطبيق «وثيقة الوفاق الوطني» لم تعد رأس حربة في السعي إلى تسوية او قيادة مشروع اقتصادي او قيادة مواجهة سياسية.
السبب الثاني: إفتقادها للمشروع او للهدف السياسي، فهي مثلاً في وَضعٍ تَطبيعي مع الثنائي الشيعي، وانتقلت من التحالف مع الحالة العونية إلى المواجهة معها، وأصبح عنوان مواجهتها صلاحيات رئاسة الحكومة والاشتباك مع الرئيس ميشال عون من باب محاولاته الدائمة الاستحواذ على هذه الصلاحيات، فيما المعركة الأساس هي مع «حزب الله» وسلاحه ودوره لا مع عون الذي يُمثّل مجرد غطاء للحزب، فيما معركة الصلاحيات تنقل المواجهة من السقف الوطني المتصل بالسيادة والقرار الوطني، إلى مواجهة فرعية بين الرئاسات تَحرف الأنظار عن المواجهة الحقيقية والأساسية، وبدلاً من أن تُعبّئ الشارع السني وطنياً في مواجهة من يخطف الدولة، تقوم بتعبئته طائفياً في مواجهة رئيس الجمهورية الذي اتّضَح أنّ كلّ هدفه و جَرّ السنة إلى مواجهة طائفية تُحَقّق له 3 أهداف دفعة واحدة:
الهدف الأول: حَرف الأنظار عن الانهيار الذي هو مسؤول عنه والذي حصلَ في عهده والرأي العام يُحمِّله مسؤولية ما آلت إليه أوضاعه وأوضاع البلد.
الهدف الثاني: محاولة إعادة تلميع صورته وتحسين وضعيته المُتراجعة مسيحياً عن طريق إيهام المسيحيين أنه يحافظ على حقوقهم، ويدافع عن صلاحيات الرئاسة الأولى، ويتصدى لِسَعي السنّة لضَرب دور رئاسة الجمهورية.
الهدف الثالث:َ شد عصب بيئته الحزبية التي عَوّدها على المواجهات المتواصلة كتعويض عن غياب المشروع السياسي والمنطلقات العقائدية، وهذا ما يفسِّر المواجهات المتنقلة التي يخوضها تارة مع «الاشتراكي» على خلفية طائفية، وطوراً مع السنّة على الخلفية نفسها، ودائماً مع «القوات اللبنانية» من زاوية طائفية ايضاً بحجّة انها لم تحافظ على حقوق الطائفة، علماً انّ أكثر مَن أساء إلى المسيحيين ودورهم وحضورهم هو هذا الفريق بالذات.
فأين المصلحة الوطنية في إعطاء الفريق العوني الهدف الذي يريده والذي هو على استعداد لأن يدفعَ ثمنه في حال لم يُقدَّم له مجاناً كما هو حاصل؟ وما نَفع معركة صلاحيات في دولةٍ مخطوفة من «حزب الله»؟
السبب الثالث: إفتقادها الى التحالفات عموماً والحليف المسيحي الوازن خصوصاً. ولقد دلّت التجربة الى أنه بقدر ما تكون تحالفاتها او تقاطعاتها مع قوى سياسية تتشارَك معها في العنوان الوطني، بقدر ما تُمسِك شارعها وتعزِّز تمثيلها، والعكس صحيح، فضلاً عن انّ أي مشروع سياسي غير قابل للتحَقّق من دون حلفاء وشركاء، والتحالف مع الرئيس نبيه بري لا يشكّل تعويضاً، لأن حدوده توازنات سلطوية لا وطنية وسيادية.
السبب الرابع: إفتقادها للمظلة السعودية. وقد يقول قائل انّ القرار في هذا الشأن غير عائد للطائفة السنية في لبنان، إنما هو قرار مَحض سعودي، ولكن الطائفة معنية بمعالجة الأسباب التي دفعت الرياض لأن تنأى بنفسها عن لبنان عموماً والسنة خصوصاً، وهي أسباب موضوعية ولا يمكن إغفالها أو القفز فوقها، خصوصاً أنه لا يمكن للمواجهة مع «حزب الله» وخَلفه طهران أن تستقيم من دون توازن الرعب الذي لا يَتأمّن سوى عن طريق السعودية.
بناء على كل هذه الأسباب وغيرها، فإنّ الطائفة السنية الكريمة بدءاً من نادي رؤساء الحكومات، مروراً بتيار «المستقبل»، ووصولاً إلى نخَبِها وكادراتها وشخصياتها، مَدعوّة إلى إعادة صياغة دورها الطليعي على قاعدة مشروع وطني يُعيد الاعتبار لشعار «لبنان أولاً» على حساب شعار «الصلاحيات أولاً»، وتحالفات وثيقة تَفتح الباب أمام ولادة جبهة وطنية، وعُمق سعودي كفيل بمواجهة المدّ الإيراني وضمان سيادة لبنان واستقلاله.