كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
لم تغير الأزمة المالية والنقدية وجه الاقتصاد اللبناني الحر فحسب، إنما خلطت “حابل” الاعمال المشروعة التي ما زالت تضخ أوكسجين العملة الصعبة في “شرايين” القطاعات اليابسة، بـ”نابل” التحويلات غير الشرعية وتبييض الأموال والمضاربة على العملة. منع إقرار القوانين الرادعة مثل “الكابيتال كونترول”، والابهام في تعاميم مصرف لبنان، وضعف أجهزة الرقابة منعت “جلاء” غبار المعركة، فارتفعت سحب الاتربة ذارة في عيون الوطن رماد اقصائه عن النظام المالي العالمي، وتشويه صورته لمصلحة المشاريع المتفلتة من الشرعية الدولية.
قبل أشهر قليلة صدر عن “البنك الوطني السويسري” تقرير يفيد بارتفاع الأموال المودعة في سويسرا نيابة عن العملاء اللبنانيين في عام 2020 بقيمة 2.7 مليار دولار، أي بنحو الثلثين لتصل إلى نحو 7.3 مليارات دولار”. إلا أنه بالنظر إلى انخفاض الحسابات الإئتمانية fiduciary account في لبنان بين العامين 2019 و2020 من 5.3 مليارات دولار إلى 2.4 مليار دولار، يمكن الإستنتاج أن المبالغ التي حولت الى سويسرا تعود إلى حسابات إئتمانية وليس إلى ودائع عادية. ما يميز هذا النوع من الحسابات أنه وديعة توضع باسم مصرف أجنبي لمصلحة عميله. فيظهر في الشكل أن الوديعة هي للمصرف الأجنبي. في العادة تجمد هذه الودائع لفترة لا تتخطى 6 أشهر. وعلى المصرف اللبناني إعادتها فور طلبها بعملتها الأصلية. فتشحن بشكل طبيعي مع شركات شحن الأموال المعتمدة. وإلا يصبح المصرف عرضة للملاحقة القانونية ودعاوى الإفلاس في المحافل الدولية.
الحسابات الإئتمانية والتحويلات
أمام هذا الواقع ونظراً لتوظيف كل المصارف ودائعها بالعملة الأجنبية في مصرف لبنان (نحو 80 مليار دولار) “من الممكن أن يكون المركزي قد سهل لمصرف أو لأكثر، كسر ودائع لأجَل بالعملة الوطنية وسحب مقابلها مبالغ كبيرة بالليرة لشراء الدولار من السوق الثانوية وتسديد الإلتزامات الخارجية”، يقول رئيس مجلس إدارة FFA PRIVATE BANK جان رياشي. وهذه الظاهرة تكررت قبل الاستحقاقات الكبيرة على المصارف، ومنها الإلتزام بالتعميم 154 قبل 28 شباط من العام الحالي. حيث نص التعميم على وجوب تكوين سيولة بالعملة الأجنبية في المصارف المراسلة توازي 3 في المئة من مجمل الودائع بالعملة الأجنبية. وكان من الملاحظ بحسب الصرافين زيادة الطلب على الدولار في هذه الفترة بشكل كبير.
إلا أنه بحسب رياشي أن “جمع هذه الدولارات من السوق وإخراجها بواسطة شركات الشحن لا يعتبر تهريباً للأموال. فطالما الاموال ما زالت في حوزة المصرف فلا فرق ان وضعت في الخزنات أو شحنت للخارج لوضعها في حسابات المصارف مع المصارف المراسلة correspondent bank. ما يمكن استنتاجه أن الطلب على الدولار في الأسواق المحلية وتحويله إلى الخارج كان يتم بشكل أساسي لهدفين: الأول تسديد الإلتزامات عبر إرجاع الودائع في الحسابات الإئتمانية. والثاني تكوين السيولة بالعملة الأجنبية في المصارف المراسلة كما نص تعميم مصرف لبنان. إذا كان من الأكيد أن هذه العمليات زادت الضغط على الليرة وسرّعت تدهور سعر الصرف، فان السؤال الجوهري هو: هل هذه العمليات ممنوعة أو مخالفة لتعاميم مصرف لبنان والقوانين؟ من المرجح أن يكون الجواب كلا. فـ”ما يمكن فهمه من التعميم 159 الذي حظر على المصارف العاملة في لبنان شراء العملات الأجنبية في السوق الموازية، أن هذا الإجراء لم يكن ممنوعاً قبلاً”، يقول رياشي. في المقابل، هل هناك نص قانوني يمنع المصارف من القيام بعمليات القطع في السوق بوصفها تاجراً؟ إن كان لا يوجد مثل هذا النص، مثلما نفترض، فان المصارف تكون براء من أي جرم أو ارتكاب في هذا الصدد، ولها ملء الحق بتحويل هذه الأموال إلى حساباتها في المصارف المراسلة في الخارج. أما إذا كانت الحجة بان السوق الموازية غير رسمية فان كل الاقتصاد اللبناني الشرعي وغير الشرعي يعتمد على هذه السوق.
منع إفلاس المصارف
جوهر المشكلة يتمثل إذا من وجهة نظر رياشي بـ”قرار مصرف لبنان في عدم إفلاس أي مصرف”! النقاش حول صوابية هذه الخطوة من عدمها يطول، مع العلم أن “نظرية المصارف لا تفلس، أثبتت برأيي الشخصي أنها لا تفيد الاقتصاد”، يقول رياشي، “إذ ما الهدف من عدم تفليسها في حال كان المودع قد خسر كل أمواله. فالحفاظ على مصرف هو لحماية المودعين، وان كنا عاجزين عن حمايتهم فلا تعود حماية المصرف تنفع”. والأهم من وجهة نظره أن هذا الواقع يؤخر الشروع بالسياسات التي تتطلب الاعتراف بالخسائر واعادة هيكلة الاقتصاد، واعطاء أمل ولو ضعيف بحماية صغار المودعين، والسماح باعادة تفعيل عجلة الاقتصاد من خلال إقصاء “الزومبي” بنك”. إلا أن هذا قد لا يعني من وجهة نظر تقنية صرف أن كل التحويلات التي تمت في الفترة الماضية غير قانونية وشحنها مخالف للقانون أو يحمل شبهات تبييض أموال.
تشويه صورة النظام المالي
قبل أشهر فُتح التحقيق بالأموال التي تمّ إخراجها في تلك الفترة، وصدر قبل أيام الحكم باتهام المعنيين من مؤسسات رسمية وخاصة وشركات تحويل الاموال بـ”هدم الاقتصاد الوطني”، وتبييض الأموال نتيجة التحويلات التي كانت تتم إلى الخارج. وبعيداً عن المخالفات القضائية التي شابت هذا الملف وعدم صلاحية القاضية غادة عون بالاستمرار بالملف بعد كف يدها عنه، فان “مجرد أن يصدر مثل هذا الحكم عن مدع عام، ولو ثبت إنها على خطأ، بحق كل من مصرف لبنان، وشركة لنقل الأموال ومصرف خاص ولجنة الرقابة على المصارف، و4 من أعرق وأكبر شركات التدقيق المحاسبي في العالم، كفيل بتشويه صورة كل لبنان ونظامه المالي، ويدفع شركاءه في الخارج لاعادة حساباتهم في التعامل معه إلى أجل غير مسمى”، يقول مدير عام شركة مكتّف لنقل الأموال ميشال مكتّف.
فـ”الاتهام بتبييض الأموال الذي طال مؤسسات عمر الصغيرة منها 50 عاماً، ويصل عمر بعضها مثل شركة مكتّف لـ75 عاماً، كأنما يقول أن كل نشاطات لبنان المالية على مدار العقود الثمانية المنصرمة غير شرعية وتندرج في خانة خداع العالم وتمرير تبييض الأموال على جميع المتعاملين معه، خصوصاً أن جرم تبييض الأموال يعتبر الجرم الأكبر في عالم الأموال. وعلى هذا الأساس من الممكن لكل الدول المتمدنة والتي تتمتع بأنظمة حوكمة ومكافحة تبييض الأموال في أوروبا وأميركا أن توقف تعاملها مع لبنان فوراً. في المقابل إن عدم ردع هذه الإفتراءات قضائياً، والإستمرار في السكوت عن الحق، وترك القضية مفتوحة للتصفيات الشخصية، بمعركة غير متكافئة الفرص، وعد التفرقة بين المتعاملين باحتراف وطبقاً للقوانين المرعية وبين المهربين ومبيضي الأموال الحقيقيين، ستشكل نكسة للقضاء وتُفقد الثقة به. وفي الحالتين يكون البلد هو الخاسر الاكبر.
النتائج كارثية
النتائج المباشرة لهذا الإدعاء تمثلت في بدء شركة PWC (PricewaterhouseCoopers) للتدقيق المحاسبي باجراء تحقيق داخلي بين الولايات المتحدة وبيروت، لدراسة امكانية الاستمرار في العمل والتعاقد مع الشركات اللبنانية من عدمه. ومثلها ستفعل الكثير من الشركات العالمية طالما الاتهامات تنهال “خبط عشواء”، ولا تخلق ردة فعل حقيقية من النخب المجتمعية والقضائية التي يهمها حقاً مستقبل لبنان.
وبحسب ميشال مكتّف الذي طالت سهام الدعوى شركته أن “الموضوع كما يظهر أبعد بكثير من قضية محاسبة شركة مكتّف بعينها أو محاولة تشويه سمعة وصورة غيرها من المؤسسات، وهي تطال الصراع على مستقبل البلد وشكله وصورته وتعاقداته وشراكاته الخارجية في القادم من الأيام”. التفكير من خارج الصندوق يأخذنا إلى سؤال جوهري: ماذا يمكن أن يحصل للبنان في حال قرر النظام المالي العالمي معاقبة لبنان، أو حتى وقف التعامل معه إلى حين تبيان الحقيقة في الاتهامات المساقة بحق نظامه ومؤسساته المالية الأساسية؟ باستثناء المازوت الذي سيتأمن للبعض من إيران، فان كل الحوالات والاعتمادات الخارجية ستتوقف فوراً ويصبح من المستحيل إدخال حبهة قمح أو حفنة طحين أو سكر أو حتى تسديد قسط جامعي للخارج… وستتعطل مختلف نواحي التجارة والخدمات… اللهم إلا اذا كان الهدف تأمينها من إيران أيضاً. وعليه هل حان وقت فصل لبنان عن النظام العالمي وإلحاقه بدول محور الممانعة. وهل أعرق المؤسسات المالية هي مجرد “كبش فداء” لتغيير وجهة لبنان الاقتصادية إلى الأبد… أسئلة لا تحتاج إلا للأيام للاجابة عنها. وفي حال صحّت المخاوف، عندها… “حرير رح نلبس”.