كتبت لينا فخر الدين في الأخبار:
بين ليلة وضحاها، تحوّل عاطلون عن العمل إلى «تجار» محروقات. استحدثوا عدّة الشغل وأدخلوا تقنيات جديدة لزيادة أرباحهم، واتّبعوا «تكتيكات تجارية» لتسليك أمورهم… حتى أصبحوا «وكلاء حصريين» للبنزين.
مثل كلّ الأزمات، لأزمة المحروقات مستفيدون حديثو العهد بـ«المصلحة». «المقطوعون» في سياراتهم و«طوابير الذل» أمام المحطات كلّ ذلك لا يُعبّر عن المشهد بكل تفاصيله. في الداخل، «تُجّار» لهم الأولوية في تعبئة دراجاتهم النارية وسياراتهم والغالونات التي تُباع في السوق السوداء بمبالغ مضاعفة عن السعر الرسمي.
«براكسات الأزمة» (نسبة إلى نقيب محطات المحروقات الراحل سامي البراكس ونجله جورج عضو النقابة)، كانوا بالأمس عاطلين عن العمل. يعملون في بيع البنزين للحصول على قوت يومهم أو شراء هاتف أو دراجة نارية أو حتّى سيارة. وبعضهم يخزّنه أملاً بتحصيل ثروة. عندما يدخل سامي إلى مقهى الحي يرحّب رفاقه بـ«النقيب». للشاب العشريني «موظّفون» يحصلون على عمولتهم مقابل كلّ غالون يبيعونه، لأن لكل منهم «زبائنه» و«خبرته في التسويق». و«سرّ المهنة» يكمن في أن التواصل لا يمكن إلا أن يكون مع زبائن تثق بهم ولا تبيع لغيرهم خشية أي فخّ تنصبه الأجهزة الأمنية.
مع ذلك، لا يخاف «النقيب» كثيراً من القوى الأمنية لأن من بين زبائنه عناصر أمنيين، كما يشتري في أحيان كثيرة غالونات بنزين من عسكريين يقفون على المحطات لفرض الأمن. فـ«العسكري لا يمكنه نقل الغالونات التي يُعبّئها إلى الثكنة أو إلى منزله بسبب البُعد الجغرافي، ومعظمهم يخافون بيعها للمواطنين. لذلك نشتري البنزين من العسكريين بأقل من سعره في السوق السوداء بحوالى الـ70 ألف ليرة. هيك بيكون العسكري نفّع واستنفع»!
كل «البراكسات» يؤكدون أن تعبئة البنزين في غالونات لم تكن بقصد المكسب عند بداية الأزمة، بل لتعبئة البنزين لأنفسهم ولأفراد عائلاتهم وأصدقائهم، أو حتّى لتخزين كميات قليلة منه لـ«القطعة». مع تفضيل كثيرين دفع ثمن الصفيحة أضعافاً على الانتظار في الطابور، «إجت الرزقة» وبات لـ«التجار الجدد» زبائنهم. ولأن «الرزق يعادل الروح» لم يكن معظمهم يتردد في افتعال إشكالات أمام المحطات لإقفالها إذا لم تُعط الأولوية لهم، قبل أن يعقد كثيرون منهم اتفاقات مع أصحاب المحطات والعاملين فيها على فتح طرق مخصّصة لهم للوصول إلى المحطة بعكس السير، وإبلاغهم بمواعيد فتح المحطّة أبوابها!
كما عمل هؤلاء على تطوير «تقنياتهم» لتلبية طلبات الزبائن «المرتاحين»، خصوصاً من المغتربين والسياح، حتى وصلت كلفة «تفويلة» السيارة إلى مليون ليرة قبل رفع الدعم. ومن بين التقنيات التي اعتمدوها تركيب ثلاثة خزانات إضافية في الـ«موتوسيكلات» لتصل سعة الواحد منها إلى 26 ليتراً، أو تركيب خزان إضافي بشكل غير مرئي وراء المقعد الخلفي للـ«فان» لترتفع سعة الـ«ريزفوار» إلى 350 ليتراً. أما مالكو السيارات منهم، فقد أدخلوا تعديلات عليها لمساعدتهم على إفراغ ما فيها، وذلك بتركيب «حنفية» أسفل الـ«ريزفوار» أو عبر الـ«نربيش» الذي ينقل البنزين من الخزان إلى الموتور، أو بإدخال خرطوم داخل الخزان، وبضربات «مارش» متتالية يُفرغ الخزان تماماً.
رغم صغر سنّه، صار سامي أحد أهم تجّار السوق السوداء في منطقته. يعطي كل «عامل» لديه 50 ألف ليرة مقابل تعبئة البنزين في غالون يتّسع لـ30 ليتراً. وهو، مثل زملائه، يلتزمون «تسعيرة» موحّدة للسوق السوداء: غالون الـ10 ليترات، مثلاً، وهو بحسب «الخبراء» يتّسع فعلياً لـ8.5 ليترات من البنزين، يبلغ سعره الرسمي 55 ألف ليرة، ويُباع في السوق السوداء بـ 250 ألف ليرة. أمّا تأمين الغالونات، فقد تحول إلى تجارة أخرى على هامش «التجارة الأمّ»، إذ يعمد بعض الشبان (غالبيتهم من غير اللبنانيين) إلى البحث داخل مكبات النفايات عن غالونات فارغة يتمّ تنظيفها وبيعها للتجار بـ 2500 ليرة للغالون.
«براكسات» المحطات لهم الأولوية على حساب العالقين في الطوابير، ولهم تأثيرهم في إحداث مزيد من الزحمة، والأهم في إفراغ المحطات من مخزونها.
تجّار يشترون من التجّار
يعمل تجار السوق السوداء من بيروت إلى الرميلة لتلبية طلبات الزبائن الذين يفضّلون دفع المال بدلاً من الانتظار، في حين أنّ القسم الأكبر من المشترين هم تجار يشترون من التجّار!
معظم هؤلاء يأتون من الجنوب ويشترون غالون البنزين بما يُراوح بين 200 ألف ليرة و250 ألفاً لبيعه في قراهم بـ500 ألف ليرة.
المحطات مربّعات حزبية!
بعض مسؤولي الأحزاب، كلّ في منطقته، تحوّلوا أيضاً إلى تجّار، أو اختصروا الطريق ووضعوا أيديهم فعلياً على المحطات متولّين «إدارتها» و«تنظيم» العمل فيها. يتسلّم مسؤولو الحزب التقدمي الاشتراكي مثلاً «أمن» معظم المحطّات الممتدة على طول ساحل الشوف. أما في بيروت، فإنّ الأفضليّة في العديد من المحطّات هي لمسؤولي حركة أمل أو لـ«قبضايات» الشوارع. ويعمل هؤلاء على فتح «خط عسكري» إلى داخل المحطة للراغبين مقابل 100 ألف ليرة!
الدور بـ100 ألف!
في الواحدة ليلاً، يجلس شاب ثلاثيني داخل سيارته بعد أن ركنها في الصف الأوّل منذ ساعات قرب إحدى محطّات الوقود. يطفئ المحرّك ويبدأ بفتح كيس «المونة» التي تبضّعها من أحد الدكاكين، ويفتح تطبيق «جواكر» على هاتفه للعب «دق ورق» في انتظار أن بأتي أحد «المستعجلين» الراغبين في شراء «موقعه الاستراتيجي» في الطابور مقابل 100 ألف ليرة على الأقل، وفق «لهفة» الشاري.
صهاريج مازوت للمنازل!
دخل عمّال محطات الوقود والشركات الموزّعة في لعبة السوق السوداء. بعضهم جنى ثروةً من الأزمة. يقول أحد التجّار الذي لا تتجاوز سنّه الـ25 عاماً إنه أقنع سائق صهريج تابع لإحدى أكبر الشركات الموزّعة لتغيير وجهته مقابل مبلغ من المال، وإفراغه في منزل الشاب الذي باعه بالغالونات إلى أصحاب المسابح، محقّقاً أرباحاً طائلة.