فتِّش عن «الثلث المعطّل». هكذا يختصر العارفون بخبايا تأليف الحكومة في لبنان كل المناخات التي تحوط بهذا الملف والتي تَمْضي في «مناوراتٍ» من إيجابياتٍ أقرب إلى «فقّاعاتٍ» ازدادت وتيرتُها في الساعات الماضية تحت عنوان «الحكومة قبل نهاية الأسبوع».
ومن دون إغفال الامتداد الإقليمي للملف الحكومي، سواء بأنه مرجّح أن يصبّ – ومهما جرتْ «دوْزنةُ» توازناتِ التشكيلةِ الجديدة – في المسرح الذي يتحكّم «حزب الله»، ومن خلْفه إيران، بخيوطه على طريقة «أمْطري أينما شئتِ فسيأتيني خراجك»، أو بأنه محور «العين الحمراء» الخليجية خصوصاً والدولية التي تُقارِبُه من زاوية ضرورة أن ينطوي على إشارة أولى إلى تخفيف قبضةِ الحزب وبدء وقْف تمكينه لبنانياً، فإن الشقَّ الداخلي من معضلةِ التأليفِ يبقى عالقاً عند ما يَعتبره العارِفون «طاحونة» الثلث المعطّل لفريق رئيس الجمهورية ميشال عون والتي انتهت معها كل المبادرات والوساطات على مدى نحو عام… «مطحونةً».
ولا شيء حتى الساعة يشي بأن ما يُعتبر «المحاولة الأخيرة» لإنقاذ الفرصة الأخيرة التي يشكّلها تكليف الرئيس نجيب ميقاتي لتلافي التشظي المميت للارتطام الكبير سيكون مصيره مختلفاً، في ظل الدوران حول العقدة نفسها المتمثلة بالثلث زائد واحد الذي يطلّ عليه فريق عون من باب المناصفة المسيحية – الإسلامية في الحكومة ووجود 9 وزراء مسيحيين (من 12 في حكومة من 24) تحت عباءة رئيس الجمهورية لتسميتهم انسجاماً مع معيار «الميثاقية» في ضوء استنكاف «القوات اللبنانية» عن المشاركة في الحكومة.
وفيما كانت كل الأجواء في بيروت أمس، تتحدث عن حصْر التعقيدات ذات الصلة بالحقائب ومَن يتولاها بوزارتيْ الاقتصاد والشوؤن الاجتماعية، فإن أحداً لم «يجرؤ» على المغامرة بالكلام عن تفكيك أم العقد المتمثلة بمَن يسمّي الوزيريْن المسيحييْن المتمِّميْن للثلث المعطل وأكثر، وسط رفْض ميقاتي أي تَراجُعاتٍ لم يقُم بها سلَفه المعتذر الرئيس سعد الحريري لجهة ترْك «العِصمة» في يد فريق واحد، في ضوء عدم واقعية التمييز بين عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل.
وفي حين يأخذ «الحُرْم» على الثلث المعطّل عنوان عدم جواز تفخيخ الحكومة من داخلها وسوْقها «مخفورةً» إلى حلبة مصارعة مفتوحة على ملفات إصلاحية حساسة تشكل ركيزة أي خروج من الحفرة المالية وأي دعم خارجي يُعتدّ به، فإن ما وراء هذه الحيثيات يلوح طيْف الانتخابات الرئاسية التي يقول خصوم باسيل إنه يخوضها ابتداءً من استحقاق تشكيل الحكومة وحجْز موقع متقدّم له فيها يضمن التحكّم بها وبمصيرها بحال حصل شغور رئاسي في نهاية ولاية عون، وصولاً لاعتبارهم أن «الهدف العميق» هو إطالة عمر حكومة تصريف الأعمال التي تستطيع إدارة الانتخابات النيابية (بحال جرت بموعدها في 8 مايو 2022) ولكنها غير مؤهّلة لـ «ترث» صلاحيات رئيس الجمهورية.
وهنا «بيت القصيد»، حتى ثبوت العكس، في رأي معارضي العهد، الذين عزّز اقتناعَهم ما كشفه القاضي بيتر جرمانوس، عن أنه ساهم في عهد الرئيس ميشال سليمان في إعداد دراسة مفادها بأن حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع تولي صلاحيات رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولايته، وعليه لا بد أن يكمل الرئيس في منصبه إلى حين انتخاب البديل، وهو ما أكده سليمان بتغريدةٍ كشف فيها أنه «في 2013 جاء مَن ينصحني بتعقيد عملية تشكيل الحكومة كي أستمر في الرئاسة في ظل وجود حكومة مستقيلة.
فشكرتهم للفت نظري. وبما أنني لا أرغب بالبقاء عملتُ على تسهيل التشكيل. وفي كل الأحوال هذه الفتوى لم أقتنع بها».
وعلى وقْع تظهير أن الحكومة العتيدة ما هي، بتشكيلها أو عدم ولادتها، إلا «الباب الخلفي» للاستحقاق الرئاسي الذي يدخل في حسابه أيضاً وجوب توفير كل العناصر «الضاغطة» لشطْب العقوبات الأميركية على باسيل بوصْفها «حارقة» لطموحه الرئاسي، لم تتأخّر «جبهة الإيجابيات» المصطَنعة في التعرض لـ «خروقٍ» كبيرة كانت أطلت برأسها عبر تسريباتٍ عن شروطٍ وحصة للحريري، كما عن رهْن وصول سباق التأليف إلى خواتيمه السعيدة في «الأمتار القليلة الأخيرة» بوقف «تَقَلُّب» ميقاتي وعدم تراجعه مجدداً عن تعهدات أو موافقاتٍ على أسماء وحقائب، وهو ما اعتُبر في إطار رمي مسبق لكرة العرقلة في ملعب الرئيس المكلف ومن خلفه رؤساء الحكومة السابقين.
وإذ تنبّه الحريري سريعاً لهذا الأمر نافياً عبر مصادر قريبة منه أن تكون له أي مطالبات بأي حصة مع تأكيد أنه «سبق وأعلن دعمه تكليف الرئيس ميقاتي وهو مستمر في دعم جهوده لتشكيل حكومة اليوم قبل الغد»، عاجَل ميقاتي بدوره التسريبات ببيان بالغ الدلالات عن مكتبه الإعلامي عَكس بوضوح أن الأمور ما زالت «مكانك راوِح» حكومياً.
وقال ميقاتي في بيانه «فيما يحرص دولة الرئيس على مقاربة عملية تشكيل الحكومة، وفق القاعدة الدستورية المعروفة وبما يتوافق مع مقتضيات المرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان، والتي ضاق فيها اللبنانيون ذرعاً بالسجالات ويتطلعون إلى تشكيل حكومة تبدأ ورشة الإنقاذ المطلوبة، يبدو أن البعض مصرّ على تحويل عملية تشكيل الحكومة إلى بازار سياسي وإعلامي مفتوح على شتى التسريبات والأقاويل والأكاذيب، في محاولة واضحة لإبعاد تهمة التعطيل عنه وإلصاقها بالآخرين، وهذا أسلوب بات مكشوفاً وممجوجاً».
وأضاف «أن اعتماد الصيغة المباشرة أحياناً والأساليب الملتوية أحياناً أخرى لتسريب الأخبار المغلوطة، لاستدراج رد فعل من الرئيس المكلف أو لاستشراف ما يقوم به لن تجدي نفعاً.
إن دولة الرئيس ماضٍ في عملية التشكيل وفق الأسس التي حددها منذ اليوم الأول وبانفتاح على التعاون والتشاور مع فخامة رئيس الجمهورية ميشال عون، ويتطلع في المقابل الى تعاون بنّاء بعيداً عن الشروط والأساليب التي باتت معروفة. كما أن دولته يُجْري لقاءات مختلفة لتشكيل الحكومة، ولم يلتزم بأي أمر نهائي مع أحد إلى حين إخراج الصيغة النهائية للحكومة، وكل ما يقال عكس ذلك كلام عارٍ من الصحة جملة وتفصيلاً».
ولم يكد أن يجف حبر بيان ميقاتي، حتى صدر عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية موقف عالي السقف والنبرة، جاء فيه أن «الرئيس عون المتمسك باحترام الأصول في تشكيل الحكومات، أعلن أكثر من مرة بأنّه لا يريد لا بصورة مباشرة ولا بصورة غير مباشرة الثلث الضامن».
وإذ كرر دعوته «الجميع لعدم إلصاق تهمة التعطيل بالرئاسة ولا بشخص الرئيس للتعمية على أهداف خاصّة مضلِّلة ما عادت تنطلي على الشعب»، رأى «التعمية انقلبت على محترفيها، وأهدافها عدم الرغبة بتأليف حكومة وعدم القيام بالإصلاحات وتجويع اللبنانيين»، داعياً «للتوقّف عن اعتماد لعبة التذاكي السياسي والخبث الموازي للدهاء من خلال التغطية على مشاكل داخلية لدى هذا الفريق أو ذاك عبر سيل الاتهام والإدانة للرئيس».