جاء في “الراي الكويتية”:
«أَحْدَثَ توالي انفجارات الأزمات في لبنان بتشعباتها وسرعة تَمَدُّدِها من ميدانِ إلى آخَر صدمةً غير عادية لدى المستثمرين الخارجيين، وغالبيتهم من الخليجيين، الذين تعوّدوا إدارة تعاملاتهم مع البلد الصغير وقطاعاته وسط إيقاعات الخلافات الداخلية التي صنّفها يوماً الرئيس الراحل رفيق الحريري كجزءٍ من تقاليد السياسة الى درجة ان الوافد يفتقدها في محطات الهدوء القصيرة دائماً، لدرجة الشعور بأنه في بلد آخَر».
توصيف موجز ارتأى رئيس جمعية المصارف اللبنانية الدكتور سليم صفير أن يستهلّ به المقابلة الخاصة التي أجرتها معه «الراي» في سعيها لنقل المشهد الاقتصادي اللبناني بوقائعه وبرؤى قادته «الميدانيين» الى «الأهل والأشقاء» في الكويت خصوصاً، والخليج عموماً.
وقال صفير «واجبنا أن نضع إخواننا في الصورة المكتملة بصراحة. وقد لا أكشف سراً إن جاهرتُ بأن غالبية قياداتنا المصرفية والمالية مهتمة بحفظ خطوط التواصل الحثيث مع المساهمين والمستثمرين والمودعين في مؤسساتنا ووحداتنا المصرفية.
ومنذ بدء الأزمة، نحاول أن ننقل اليهم مجريات الأمور وتطوراتها بكل شفافية. ونحن ملزمون بذلك من دون حصر مواضيع البحث بشؤون القطاع المالي. وهم على ما عهدناهم دائماً، متفهّمون إلى حد كبير للوضع الاستثنائي الذي يواجهه القطاع المالي ويجمعون على تشجيعنا لتوحيد الجهود والحضّ على الاستجابة لمقتضيات الإنقاذ وتصويب الانحرافات في إدارة البلاد وشؤون المواطنين والاقتصاد الوطني».
وأكد أن «ذوي القربى في الجغرافيا والتاريخ واللغة والثقافة لا يتوانون عن مشاركة أهل البلد المنكوب آلامهم وعذاباتهم بالمتابعة وبمدّ يد العون للناس والنازحين حيث أمكنهم بهدف دعم صمودهم في جبه تداعيات التدهور المريع للاقتصاد وكل أوجه الحياة خلال فترة قصيرة يقلّ مداها عن السنتين.
فالبلد العزيز على قلوبهم قبل مصالحهم، يرونه يسقط من قعر الى قعر أدنى ويكاد يخسر كل مقوماته وركائز اقتصاده ومكتسباته التي بناها بمشاركتهم على مدى ثلاثة عقود متتالية عقب الحرب الأهلية الطاحنة التي وضعت أوزارها بعد اتفاق الطائف الذي أرسى دستوراً معدَّلاً ومسارات حكم جديدة أعادت للبنان ألقه وأضافت إليه ميزاتٍ تَفاضُليةً في عالميْ المال والأعمال، أنتجتْ بدورها فرصاً استثمارية في مجالات المصارف والوساطة المالية وعزّزت الريادة الاقليمية لبلدٍ كان يستعيد مكانته كمقصد جاذب ومتميّز في مجالات السياحة والاستشفاء والتعليم والخدمات والتسويق وسواها».
وسيلة فضلى
في المقابل، لا يتردد صفير في الإقرار بأن الارتقاء بالتواصل ليصبح مباشراً عبر وفود من القطاع الخاص إلى بلدان الخليج هو ضمن أولويات التفكير وجداول الأعمال في مرحلة لاحقة «باعتباره الوسيلة الفضلى لشكرهم وطمأنتهم ولحماية النواة الصلبة للمنظومة النوعية من شبكات العلاقات التي تم نسجها تاريخياً من كل القطاعات الوطنية مع الخارج القريب والبعيد.
فهذا البناء المتين كان قبل الحروب واستمر صامداً خلالها ليسطع أكثر بعدها، وهو يتعامل، بتكوينه الأفرادي والمؤسساتي، بواقعية وبمحبة خالصة للبنان واللبنانيين بما يشمل أزماتهم العاتية المستجدة. بل ان المستثمرين الخارجيين يمنحوننا الفرصة تلو الفرصة للتمكن من معاودة تنظيم مؤسساتنا وموجوداتنا على حساب أي مصالح أو منافع آنية.
ولذا يتوجب علينا حكومياً وكقطاع خاص، المبادرة لمحاورتهم والحرص الشديد على حقوقهم وأصولهم وتصنيفها كأمانات متوجبة الأداء لأصحابها ضمن جدول الأولويات في مرحلة التعافي».
تفريخ الأزمات
وأضاف: «للأسف لا زالت قيادات البلد تتعثر في الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل رغم إدراكها أن الخطوات اللاحقة أسهل وأسرع. فبعد نحو 14 شهراً من شبه الفراغ التام في السلطة التنفيذية، لم ينفع تفريخ الأزمات وتَكاثُرها في المجالات كافة وتوسع دائرة الفقر لتشمل أكثر من 60 في المئة من السكان في تصويب خيارات السياسيين وتحفيزهم على الخروج من الارتهان للمصالح الفردية والحزبية الضيقة وتوزيع الحصص، غير عابئين بأن وجود المرجعية الحكومية الصالحة هو شرطٌ لازم وغير قابل لأي مواربة، بهدف الحؤول دون ضياع الوطن ووضْع اللبنة الأولى لبدء الصعود من الهاوية والشبْك مع الأيدي العربية والدولية الممدودة لانتشال الدولة من المستنقع الذي رماها فيه قادتها وأهل الحل والربط فيها».
وهل الفشل السياسي وحده في البلد غير المستقرّ قاد الى الفشل المالي؟ يردّ رئيس جمعية المصارف اللبنانية: «ثمة خطأ جسيم اندفعتْ إليه الدولةُ بتوصياتِ مستشارين عاطلين عن العمل ووَضَعَ القطاع المالي برمّته في مرمى استهدافاتِ متلاحقة، وأفضى إلى توليد أزمات مستعصية وأكثر ايلاماً.
ففي مطلع آذار من العام الماضي، قرّرت الحكومةُ برئاسة حسّان دياب تعليق دفع مستحقات سندات دين دولية من أصول وفوائد، ضاربةً عرض الحائط بحلولٍ بديلة واقتراحات عملية وناجعة عملْنا على تنسيقها مع حاكمية البنك المركزي، وتقضي بإجراء عملية مبادلة (سواب) وسداد موجبات لا تتعدّى كلفتها ملياريْ دولار ثم الانتقال فوراً إلى فتْح مفاوضاتٍ جدية وصريحة مع حاملي قسائم»اليوروبندز«الخارجيين أساساً، كما تقضي بدعمِ المصارف المحلية التي كانت تحمل نحو نصف هذه الفئة الأثقل من الدين العام، وذلك بهدف محدّد يقضي بإعادة هيكلة كامل المحفظة وتأخير عمليات السداد بين 3 و 5 سنوات في موازاة خفْض العوائد الى الحدود الدنيا الممكنة».
غوغاء وضجيج
وتابع صفير: «لكن حين يخفت صوت العقل بسبب صمّ الآذان المتعمَّد، يعلو حكماً الغوغاء والضجيج. وهكذا مضت الدولةُ في لعبة مزايداتٍ بين أركان مؤسساتها الدستورية المركزية في قرار التخلف عن الدفع، ما أوجب استحقاقاً فورياً لكل شرائح السندات التي يصل تاريخ استحقاق بعض إصداراتها إلى سنة 2035 و2037. ثم كرّت السبحة تلقائياً بصدار تقارير فورية من مؤسسات التصنيف الدولية لتضع الديون الحكومية بالعملات الصعبة في أسفل الترتيب، أي التعثر عن الدفع. فأي قيادةٍ هذه التي تنحر قطاعها المالي وسمعة لبنان المالية بسكين الجهلة والموتورين، وتزهو بإشهار إفلاسها، فيما خزائن البنك المركزي آنذاك كانت متخمة بما يزيد عن 30 مليار دولار، أكثر من نصفها احتياطات حرة. يضاف اليها ركيزة معنوية، ولو من دون نيّة للتسييل، تناهز نحو 17 مليار دولاراً من احتياطات الذهب؟».
ولفت صفير إلى أنه «لم نكد نصحو من غيبوبةِ هذه الضربة التي كادت أن تكون قاضيةً لولا ربْط الدائنين الخارجيين ردّ فعلهم بمسار التفاوض الموعود لعقدِ برنامجِ دعمٍ تمويلي مع صندوق النقد الدولي، ولولا حزمة الإجراءات الوقائية التي نفذها البنك المركزي والجهاز المصرفي ولا سيما لجهة تقييد حركة الرساميل ولو من دون تشريع، حتى عاجلتْنا كارثةُ تفجير مرفأ بيروت (4 اغسطس 2020) التي أودت بآلاف الضحايا من شهداء وجرحى ودمّرت عشرات آلاف المنازل والمؤسسات والشركات كلياً وجزئياً، متسبّبةً بخسائر مباشرة وغير مباشرة قدّرها البنك الدولي بما يصل إلى 8 مليارات دولار. وبعدها بأيام قليلة استقالت الحكومة لتقتصر مهماتها على تصريف الأعمال بأضيق الحدود، وليتم تجميد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي».
إدارة سيئة
وبجسب رئيس جمعية المصارف اللبنانية «يطول الشرح في هذا المجال المقيت، إنما الأهمّ أن الإدارة السيئة لهذا الملف أوصلت السكان والاحتياطي النقدي معاً الى مأزقيْن في غاية الاستعصاء على المعالجة. بل إن السكين كاد يقتطع التوظيفات الالزامية التي تشكل حقوقاً حصرية للبنوك ومودعيها بنسبة 14 في المئة من إجمالي نحو 105 مليارات دولار من المدخرات التي تعود لأكثر من 1.5 مليون حساب استثماري في الجهاز المصرفي. وعند هذا الحد رفعنا صوتنا عاليا وهدّدنا بجدية تامة باللجوء إلى شتى الإجراءات التي تمنع المساس بأموال مودعينا وحرْقها في أتون دعْمٍ زاد الفقراء فقراً ولم يخفّف من بلوغ التضخم مستويات قاربت الألف في المئة، فيما تدنت احتياطات البنك المركزي من دون احتياطات الودائع الالزامية الى حدود الصفر».
ومن دون أي تردد، يجزم صفير، «كنا في منتهى الوضوح بأن جمعية المصارف تحمّل مصرف لبنان مسؤولية المساس بالاحتياطي الإلزامي والخضوع للضغوط التي تمارسها عليه السلطات السياسية خلافاً لمنطق وروحية قانون النقد والتسليف. حيث أن غاية الاحتياطي الإلزامي تنحصر بحاجات القطاع المصرفي. كما تؤكد الجمعية أن خفض معدّل الاحتياطي الإلزامي بالعملات يوجب على مصرف لبنان إعادة المبالغ المحرَّرة للمودعين أصحاب الحق بها. فليس جائزاً استعمال المبالغ المحرَّرة أخيراًً جراء خفْض المعدّل من 15 إلى 14 في المئة لأغراض الدعم».
تلكؤ وفساد
ويضيف: «بالصراحة عينها نخاطب الدولة كما المجتمع الاقليمي والدولي بأن أزمة لبنان أَتت بعد سنوات من التلكؤ عن القيام بِأَي إِصلاحات حقيقيَة، كما الإمعان بالهدر والفساد في مؤسسات الدولة. ومن الجهالة بمكان والمعيب في الوقت ذاته وضْعنا في»بوز المدفع«. فالمصارف جاهدتْ للحفاظ على وجودها وعملائها وأُصولها رغم التضحيات والإِستهداف الممنهج على مدى عامين تقريباً. بينما الحقيقة المشهودة تنبىء بالقرائن أنه رغم كل التشويه المتعمّد والممارسات التي ضربت بقوةٍ غير مسبوقة ركائز القطاع المالي، إنه لم يُفْلِس أي مصرِفٍ ولم تضِع أي وديعة».
كما نجحتْ المصارف، في قراءة صفير، «بأن توقِف المحاولةَ غير المفهومة المنطلقات لشطب رساميل البنوك وأموالها الخاصة ضمن سياقات تحميلها وزر أزمة الدين العام للدولة والنظريات المتخلفة عن إلقاء تبعات تَهوُّر المدين وهدر المال على ذمة الدائن من بنك مركزي ومصارف وطنية ودائنين خارجيين. أيضاً وقفت المصارف ضد توجهات خطة الحكومة للاقتطاع من الودائع، وضدّ قرار التخلف عن سداد الديون الذي سرّع وتيرة الانهيار». وتابع: «مورست الضغوط على المصارف إضافة الى حملات التجني والتخوين، ولكن الحرب الإِقتصادية الحالية لن تستطيع أن تَقضي على إِرث لبنان وكنزِه الذي تمثله مصارفه بمستثمريها المحليين والخارجيين وبودائع اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين في ربوعه».
عنوان وحيد
ويخلص صفير الى عنوان وحيد لجبل الأزمات المتفشية في كل الميادين «الدولة زعزعت الثقة بالبلاد. وفي المقابل، فإن ما جرى ويَجْري من حراكٍ شعبي مُحِقٌّ ومشروع. وهو يرفع شعارَ الاصلاح الهيكلي الشامل، تماماً كما نطالب به جميعاً، من مجتمع مدني وهيئات اقتصادية ونقابية، وهذا يشكل شرطاً أساسياً للاستحصال على الدعم الخارجي. وهذا ما يقتضي إعادة تصويب المنطلقات والأهداف، بدءاً من تشكيل حكومةٍ ذات مهمات إنقاذية يدعمها المجتمع الدولي وتستأنف التفاوض مع صندوق النقد. ونحن رغم الإساءات وبعض الاعتداءات التي تَعَرَّضَ لها الجهازُ المصرفي، شركاء أساسيون في الجهود الآيلة إلى إخراج البلد من سلسلة أزماته التي باتت تهدّد كيانَه ومصيره في ظل هجرة الكفاءات والشباب والمحترفين في مجمل ميادين العمل والانتاج والأنشطة الابداعية والثقافية».
ضربة قاصمة بالتقسيط
من دون الدخول في تعميق حدة الانحرافات المالية جراء التمادي في تخبُّط الادارة السياسية وتعثُّر تشكيل حكومة جديدة، تلقى القطاع المالي الضربة القاصمة الثانية بالتقسيط، بحسب وصف صفير. قال «بدل التزام خيار الإنقاذ، بدءاً من وقف الانهيار النقدي الذي يقوّض أعمدة هيكلية الاقتصاد الوطني عبر تأطير كل الجهود في سبيل انتظام المؤسسات الدستورية والاستفادة من تَعاطُف الخارج، الاقليمي والدولي، الذي روّعتْه كارثة المرفأ، استسهلتْ الدولةُ المضيّ قدماً في خيار دعم حزماتٍ من السلع الاستراتيجية والأساسية بذريعة التخفيف من لهيب التضخم وموجات الغلاء، لتكتشف متأخّرة نفاد الاحتياطات الحرة تماماً عقب إنفاق نحو 13 مليار دولار على الدعم العقيم النتائج، وأن الجزء الأكبر من المبالغ تحوّل بسحر النفوذ وحماته إلى جيوب المهربين والمحتكرين وتجار الأزمات».
كل يوم تأخير يُراكم تكلفة المعالجة
ختم رئيس جمعية المصارف اللبنانية حديثه لـ«الراي»، قائلاً: «كل يوم تأخيرٍ يُراكِمُ تكلفةَ المعالجة ويزيدها صعوبة. لبنان ليس مفلساً إنما منهوباً، وهو ليس فاشلاً، إنما ادارته سيئة. أيضاً، ورغم كل المصاعب والضغوط، ما زال القطاع المصرفي في وضعية ملائمة للنهوض من الكبوة واستعادة زمام المبادرة. في العالم أجمع، الدولةُ هي الراعي الصالح للمواطنين وللاقتصاد، ولا نريد أن تكتمل قناعتنا بأن ادارة دولتنا لا تتقن سوى شحْذ السكين وغرْزه في ظهور الناس وقطاعات الانتاج».