جاء في “اللواء”:
من يفرض حصاراً قاسياً على لبنان؟ من يحاصر اللبناني بالمازوت، فيمنع عنه المستشفى، والفرن، وكهرباء المولّد المرتفع الثمن؟ ومن يحاصره بالبنزين، فيحول دون انتقاله إلى عمله أو متجره أو قريته، ويذله على محطات التعبئة، عبر الطوابير الطويلة والمديدة (الساعات)؟
من يحاصر اللبناني بالماء، سواء مياه الخدمة، أو الشفة أو الشرب. فلا الشركة تضخ المياه لدرجة أن منظمة اليونسيف تحدثت عن شحّ يُهدّد البلد، الذي قيل ذات يوم أنه يعوم فوق المياه والأنهار والينابيع!
مَنْ يحاصر اللبناني بحبة الدواء، من البنادول إلى الأدوية الخاصة بالأمراض المستعصية، كالسرطان وغيره..
من يحاصر اللبناني بالدولار، والأسعار الملتهبة، التي تبصر مناماً كل صباح، فترتفع، ولا تعود، وكأن نحر هذا البلد هدف بحد ذاته..
يكاد المواطن اللبناني أن يلتقط نفساً، فإذا بالضربات تنهال عليه من كل حدب وصوب، تضربه في النقاط الموجعة، في الرأس والقلب، وإلَّا بالرصاص، فيسقط أرضاً، مضرجاً بالدماء، أو جرياً، يموت على الطريق لقلة الحيلة والوسيلة في الوصول إلى مستوصف أو مستشفى..
في بيئة الإستهداف هذه تكثر الأسئلة والإتهامات: هل الإدارة الأميركية هي التي تحاصر لبنان، وكيف يمكن تفسير مسار عنها إلى تعليق الشق اللبناني من قانون قيصر الخاص بالعقوبات على سوريا، عبر السماح باستجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر عبر سوريا، الأمر الذي أتاح لوفد وزاري من حكومة تصريف الأعمال للقيام بزيارة إلى سوريا، والتباحث في إحياء اتفاقية عام 2009 الخاصة بمرور الكهرباء والغاز عبر الأراضي السورية إلى لبنان، في بادرة من شأنها إعادة رسم الوقائع في الشرق الأدنى، بدءاً من وضعية التلازم التاريخي بين لبنان وسوريا..
وهل المسؤول هو حزب الله، اللبناني، الذي ما انفكت قوى مسيحية وغير مسيحية (القوات اللبناني على سبيل المثال) باتهامه بأنه هو المسؤول عن الأزمة المالية والمعيشية التي يتخبّط بها لبنان حالياً، وهو يستعد لاستقبال حمولة أوّل باخرة نفط إيرانية تحمل المازوت إلى لبنان، ليوزع ويباع بأسعار الكلفة، في محاولة من الحزب لكسر حلقة الحصار المالي والمعيشي على لبنان، بالنظر لسياساته الخارجية، التي تلتقي مع دول وحركات المحور الإيراني؟
هل المسؤول عن حصار اللبناني، نادي رؤساء الحكومة السابقين، الذي انضم إليه الرئيس سعد الحريري، بعدما خسر تجربة التكليف وسط عناد حادٍ واجهه به فريق بعبدا، ومن خلفه رئيس التيار الوطني الحر؟ مع العلم ان أعضاء النادي من رؤساء حكومات، بذلوا وما يزالون يبذلون كلّ ما من شأنه تأليف حكومة تعيد الاعتبار لاتفاق الطائف..
لا حاجة لاستكمال حلقة الأسئلة عن الجهات اللبنانية المسؤولة عن الحصار، مع الإشارة إلى ان الأمور لا «اللقوات اللبنانية»، والحركة «أمل» أو الحزب التقدمي الاشتراكي في مجريات الأزمة اليومية التي تحلّ لعنة على اللبنانيين مع كل صباح..
على أن السؤال، الذي يحمل في طيّاته الإجابة الممكنة، وربما المقنعة، ما هي مسؤولية النائب جبران باسيل عمّا آلت إليه الأمور في البلد، ولماذا هو دون سواه يتحمل المسؤولية الأكبر في حصار اللبنانيين؟
لا معنى للكلام التعبوي لباسيل، وهو يخاطب مناصريه في التيار الوطني الحر، الذي يواجه «أزمة انتماء» في ظل الخيبات المتلاحقة، التي تحاصره، منذ أن قرّر «الرئيس باسيل» ان يركب رأسه، ويدير أخطر عملية انقلاب على الطائف، منذ تأسيس النظام على أساسه بعد العام 1990، الذي شهد انتهاء تمرّد الحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون (رئيس الجمهورية الحالي) وانتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية (رفض عون مجرَّد ذكر اسمه رئيساً، فهو السيّد الياس الهراوي).
وعندما يتحدث الرجل عن حقوق المسيحيين، التي كان نبيه برّي، وسعد الحريري، ووليد جنبلاط يضعون اليد عليها، من خلال انتخاب النواب المسيحيين على لوائحهم، لينضموا في ما بعد إلى كتلهم، كان يعني خوض المعركة على أساس قانون انتخاب جديد، خلاصته ان كل طائفة تنتخب نوابها، إلى ان جاء القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات الماضية، وحملت باسيل مع عدد من كوادر التيار الوطني الحر إلى الندوة البرلمانية كأكبر تكتل في المجلس، يُهدّد الآن بالاستقالة..
نجح باسيل في تصفية الحساب مع تيّار «المستقبل» بانقلابه السريع على «التسوية الرئاسية» التي جاءت بعون الى بعبدا رئيساً مسيحياً قوياً.. معتمداً على تحالفه الذي بقي صامداً مع حزب الله، والمعروف «بتفاهم مار مخايل» عام 2006.
كما نجح باسيل بإقصاء القوى المسيحية المنافسة عن التمثيل في الحكومة، والمواقع القيادية والإدارية في الدولة، لا سيما نسف «تفاهم معراب» الذي ظنت «القوات» بسذاجة انه سيأخذها إلى الشراكة مع باسيل في إدارة الملف المسيحي في البلد، الذي تحمل إلى منصة «ملفات طائفية» في ما يشبه صراع الذئاب المسعورة على جيفة نتنة فإذا بعملية الاقصاء جاءت صاعقة على «الجماعة المسيحية» التي ظنت ذات يوم ان «أمن المجتمع المسيحي» كان من أمجادها، تماماً كما تعيش بكركي ان مجد لبنان اعطي لها..
فشل الرجل (أي باسيل) وهو الموهوم، بنرجسيته، انه قادر على فعل الأعاجيب، وأن ما بحوزته يتجاوز قوة كميل شمعون وبشير الجميل، وسائر القيادات المسيحية التي كانت اليد الطولى في بناء سياسات سالفة.. فلم يتمكن من نبيه برّي (رئيس مجلس النواب) ولم يتمكن من وليد جنبلاط (رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي) ولم يتمكن من سليمان فرنجية (رئيس تيّار المردة)..
حوصر باسيل، وتهاوت أحلامه تباعاً، ففشلت مقولة «الرئيس القوي»، وسقطت إلى غير رجعة مسلّمة حاول إرساءها في «التفاهم الوطني» ان المناصب تؤول اتفاقاً إلى الاقوياء في طوائفهم..
تهاوت قلاع «التفاهمات» التي حاول بناءها لتحصين دوره. بما في ذلك التفاهم مع حزب الله، الذي يقف على أرض مهزوزة، بين تأكيدات الرجل انحيازه إلى المحور، ومغازلته لإدارة بايدن، التي لا تخفى على الحزب وقيادته..
وعلى طريقة، برز «الثعلب يوماً بثياب الواعظين» يحاول باسيل إيهام الرأي العام، بما في ذلك أنصاره الأقربين، أنه الأشد حرصاً على «تأليف حكومة».. ضارباً عرض الحائط ذاكرة اللبنانيين، ومتابعاتهم لدوره السلبي في إجهاض صيغ الحكومات من أيام السفير مصطفى أديب إلى الرئيس سعد الحريري، وصولاً إلى الرئيس المكلف نجيب ميقاتي..
تناهى إلى مسامع بكركي ان باسيل ماضٍ في تصديع بنى الكيان اللبناني، وتأكيده امام مراجعيه، من كوادر التيار العوني، انه يهدمه لإعادة بنائه.. الأمر الذي أشار غيظ القيادة الروحية المارونية، وأصدرت البيان الأخير، العالي السقف، في إشارة رفض قاطعة لأية مغامرة مسيحية، تذهب بما تبقى من دور أو نفوذ للمسيحيين في هذا البلد.
في المحافل، والمجالس، يُتهم باسيل وفريقه بأنه هو الذي يحاصر اللبنانيين، إمّا معزوفة الفساد، فهي تحتاج لجولة أفق جديدة.. قبل انسداد الأفق الوطني، ما لم تخرج حكومة ميقاتي، في بحر الأسبوع الطالع!