كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:
تفيض أحاديث الناس وتعليقات وسائل التواصل بأخبار «الفارّين» من لبنان هرباً من جهنم هذا العهد، فالحياة ما عادت تُطاق من دون أدنى مقوماتها، وتكرارُ الشكوى من الإهمال والإذلال، من دون حلول، باتَ يوجعُ أكثر من الأزمات المتكاثرة نفسها. ليس أدلّ على البؤس المتعاظم من المؤشرات والأرقام التي أصدرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) عن الفقر في لبنان الذيأصبح يطال 74% من مجموع السكان، فـ «إذا ما تمّ أخذ أبعاد أوسع من الدَخل في الاعتبار، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82% من السكان»، بحسب اللجنة التي أشارت إلى أن الفقر المتعددقد تضاعفبين عامي 2019 و2021 من 42% إلى 82%، ففي 2020 كانت نسبة الفقر تطال 55% من السكان، وفي 2019 كانت النسبة 28%، أما (اليونيسف) فكانت أعلنت في تموز الماضي أن 30 في المئة من أطفال لبنان ينامون جائعين، ونحو 77 بالمئة من الأسر لا تملك ما يكفي من مال لشراء الغذاء، وتضطر 60 بالمئة من الأسر لشراء الطعام بالاستدانة! إنها بركات العهد القوي.
عروضات التشكيل
الأرقام صادمة، لكن الأكثر صدمةً، بحسب خبراء السياسات، هو أنّ الأمم المتحدة، المعنيّة بمعالجة مسبّبات الأزمات، تحوّلت إلى منصّة لرصد عوارضها ونتائجها الكارثيّة، بدل الضغط وحشد القوى للتغيير! فهمنا أن في لبنان منظومةً تحترفُ القتلَ والفسادَ والنهبَ وبيع الأكاذيب وذرفَ دموع التماسيح، لكن ما لا يمكن فهمه هو التخلّي المبالغ به من الأسرة الدولية عن هذا البلد وشعبه، والاكتفاء بالتفرج والنحيب والإدانات والتعبير عن المخاوف!
وفيما البلد سائر للهلاك، لا يزال رئيس الجمهورية، يواصل لقاءاته مع الرئيس المكلّف، ويجادل في شكل الحكومة ونوعيّة الوزراء، وكم وزيراً له وكم وزيراً لصهره، ينقلب نهاراً على ما يقبل به ليلاً!! وهو كان وعد وفد الكونغرس الأميركي بإنجاز تشكيل الحكومة نهاية الأسبوع الفائت، وكان الأجدر أن يحدّد نهاية العقد، أو القرن.. لمَ العجلة؟ والأوقح أن ما يتم تسريبه من تشكيلات يراوح ما بين أسماء غارقة في دائرة الشبهة والتبعية العمياء، وأخرى غارقة في التفاهة.. تشكيلات لا تليق بسيرك فضلاً عن مواجهة أزمة كارثية.
ما بين المطارنة والمفتي: بقاء لبنان
وإزاء التهريج على آلام اللبنانيين برزت مواقف تأسيسيّة يمكن البناء عليها لإحداث خرق ما. منها موقف مجلس المطارنة الذي دان عرقلةالتشكيل «لأسباب تحاصصية معيبة»، واعتبر أن «ما يجري يخفي انقلابا على الميثاق الوطني والدستور واتفاق الطائف»، ونبّه إلى أن «لبنان الحرية والسيادة والاستقلال وسلامة الأراضي بات على مشارف الزوال، وأن ثمة قوى إقليمية ومحلية تابعة لها وراء ذلك»، معتبراً أن «القضية اليوم إنما هي قضية المصير»، مناشداً «المجتمع الدولي المبادرة سريعا إلى احترام القرارات الدولية المتعلقة بلبنان والعمل على تنفيذها بقوة وحزم». وفي المعلومات فإن البيان جاء بعد نقاش هادئ ومعمّق بين المطارنة الموارنة، ومجموعة مصغّرة عابرة للطوائف، مفاده «أننا لم نعد في أزمة حكومية، بل أصبحنا أمام خطر على الكيان، والمطلوب إعادة انتاج القضية اللبنانية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفاتيكان تقدم على بكركي منذ آب 2020 بالكلام عن الخطر على الهوية اللبنانية، والآن تعود بكركي وتلتقي مع موقف الفاتيكان بعد أن كانت تحاول التعويل على ترميم من خلال المنظومة الحاكمة.
وليس بعيداً، المواقف التي تضمنتها خطبة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في صلاة الجمعة، في 27 آب 2021،حول الإمعان المتزايد باستفزاز السنّة، وضرب الدستور والعيش المشترك، ومطالبة المجتمعيْن العربي والدولي بمساعدة لبنان واستنقاذه من الانهيار الذي أوصله إليه عهد عون وحسابات «حزب الله». وأهمية مواقف المفتي أنها رسمت خطوطاً حمراء تجب مراعاتها سواء تشكّلت الحكومة أو لم تتشكّل، وهي لن تبصر النور، لناحية أن المخرج الوطني بات مرهوناًبرحيل عون.
حارس الجمهورية مقترحاً الحل
البارز، ولعله الأبرز، في سياق مواجهة «الأداء الانقلابي عند الرّئيس عون وفريقه»، المطالعة الدستورية، القانونية، الوطنية، الميثاقية، لحارس الجمهورية، الفقيه الدستوري حسن الرفاعي، الذي فنّد حيثيات خروج عون على الدستور والميثاق والأعراف،إذ «لم يسبق أن اندلعت حرب صلاحيّات ضروس بين رئيس جمهوريّةٍ غير مسؤولٍ ورئيس حكومةٍ مسؤولٍ حول عمليّة وآليات تشكيل الحكومة كما هو حاصل مع الرّئيس عون».وأمام ما سمّاه «العبث المجنون بنظام لبنان»، قال الرفاعي إن ميشال عون «خرج عن دور الحكم العادل والحكيم الجامع»، وحذّر من «أنّ غياب موقف وطني واضح من تطاولات رئيس الجمهوريّة وفريقه على النّظام والدّستور ورئاسة الحكومة يعيدنا إلى أجواء تشنّج ما قبل 1975 ويفتح الباب واسعًا أمام المزايدات الطائفيّة الشعبويّة من كلّ حدبٍ وصوب مما يقود إلى مزيد من تشظّي الوطن وهجرة أبنائه وربما يفرض مؤتمرًا تأسيسيًّا»، داعياً «لتشكيل جبهة عريضة من النّواب تتخذ الإجراءات الدّستوريّة لمحاكمة الرّئيس عون عن إسهامه الفظيع في خيانة فكرة لبنان وضرب مرتكزاته».
ما بين المهم والواجب
الواقع أن ارتياب الرئيس عون من كل الصيغ والتشكيلات والاقتراحات والأعداد والأسماء هو ارتياب مشروع، مشروع فعلاً،لأنه يؤمن في قرارة نفسه أن لا أحد يريده، ولا أحد يثق بأن الإنقاذ سيأتي على يديه، أو أنه يَعبأ لشيء سوى إنقاذ صهره العظيممن سيف العقوبات، ومصالح الحزب المهيمن ولو على حطام البلد.هو يدرك أن اللبنانيين.. غالبية اللبنانيين، يعدّون الأيام عداً لانتهاء هذا العهد النحس، وهو يدرك أكثر، أنه وعهده وحاشيته يتحملون مسؤولية خراب البلد، والانهيار والفشل، ومسؤولية جرّ البلد للتقسيم، وهو واقعٌ فعلياً، وخطاب الحرب والفوضى.
إن تطوّر الموقف الوطني لناحية اعتبار رحيل عون مطلباً وطنياً جامعاً، مهم، ويحتاج مواكبة وتوسيعاً لدائرة المطالبين به والداعمين له، ليس لإنقاذ لبنان فحسب، بل صوناً للسلم الأهلي، والعيش المشترك، واستجابة لمساعي الإنقاذ من قبل المجتمعيْن العربي والدولي.
نعم إن اسقاط عون واجب وطني، لكن المهم أكثر، وهو مطلوب من كل الوطنيين ومن السادة المطارنة تحديداً، هو أن لا يكون رئيس الجمهورية المقبل (إن بقي لبنان) على شَاكلة الجنرال القوي.