كتب فارس خشان في “النهار”:
الأحد الأخير، سُجّل ثاني اتصال هاتفي بين الرئيسين الفرنسي ايمانويل ماكرون والايراني ابراهيم رئيسي. الاتصال الأوّل بين الطرفين، كان في التاسع من آب (اغسطس) المنصرم.
المعلومات الفرنسية الرسمية عن الاتصال الثاني شحيحة للغاية، ولكنّ الرئاسة الايرانية بدت “أكرم من اللازم”، بحيث عرضت، بشكل واف، لبرنامج “شراكة” تقترحه على باريس.
صاغت إيران بيان المعلومات الذي وزّعته بعد الإتصال الهاتفي، بأدبيات “واثقة”، بحيث بدت متأكّدة من أنّها تملك مفاتيح الأقفال التي تحكم إغلاق الحلول التي تطمح فرنسا الى ولوجها، سواء في الملف النووي العالق مع “استثماراته”، أو في الخوف من أزمة نزوح أفغانية، أو في استقرار طموحاتها العراقية، أو في حلحلة الأوضاع اللبنانية.
ولا تنبع ثقة ايران من عدم، ففرنسا كما غالبية دول الاتحاد الاوروبي، عادت، في ضوء طريقة الإنسحاب الاميركي من أفغانستان، ووضعت “الاستقلال العسكري” عن الولايات المتحدة الاميركية، بكل انعكاساته السياسية، على طاولة البحث.
وفرنسا، لولا “مساهمة إيران” لم تكن قد جلست، دون غيرها من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن”، الى مائدة “مؤتمر قمة بغداد لدول الجوار” وما أعقبها من توقيع اتفاق ضخم بين العراق من جهة وشركة “توتال انيرجي”، من جهة أخرى، بقيمة ٢٧ مليار دولار للإستثمار في صناعات الغاز والنفط والطاقة الشمسية.
وتدرك إيران أنّ فرنسا تحتاج إليها في لبنان. طالما سعت باريس سابقاً الى الحصول على مساعدة طهران، لكنّ المسؤولين الايرانيين كانوا يغسلون أياديهم. هذه المرّة، وضع رئيسي شروطه على الطاولة: نحن و”حزب الله” نسهّل تشكيل الحكومة التي نراها تناسب “لبناننا” وانت يا ماكرون تُسهّل “رفع العقوبات وتوفير المساعدات”.
وبمراجعة العقوبات المفروضة على لبنان، تظهر واشنطن التي تلاحق “حزب الله” وبعض الشخصيات السياسية المرتبطة به مثل جبران باسيل وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وبعض المصارف اللبنانية وكان آخرها، قبل الانهيار الكبير، مصرف “جمّال ترست بنك”.
وإشارة رئيسي الى تشكيل ما وصفه ب”حكومة قوية” أبدى استعداده لتشكيلها بالتعاون مع “حزب الله” وفرنسا، لا تخرج عن المفهوم الذي سبق أن حدّده الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله، حين قال إنّ لبنان يحتاج الى حكومة سياسية فيها اختصاصيون.
والأهم في كلام رئيسي أنّه لا يقيم وزناً لأيّ شريك لبناني في عملية تشكيل الحكومة إلّا ل”حزب الله”، بحيث بدا واثقاً بأنّ الأطراف السياسية الأخرى التي يُنسَب إليها التعطيل المستمر منذ نحو ثلاثة عشر شهراً ، ليست ذات قيمة. هذا ينطبق على رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره الحزبي، وعلى رؤساء الحكومة وأحزابهم، وعلى رئيس مجلس النواب نبيه برّي و”حركة أمل” وحلفائها.
توجّه رئيسي هذا، والذي حصر فيه تشكيل الحكومة اللبنانية بلاعب محلي واحد هو “حزب الله”، أظهر أنّ “الشباب” في لبنان يتسلّى بعضهم بالبعض الآخر، في عملية تقطيع للوقت، حتى تنضج الظروف المؤاتية لتفرض ايران المعايير التي تناسبها.
اذن، باختصار فإنّ الطرح الايراني، بما يختص في الشأن اللبناني هو الآتي: في مقابل سعي فرنسا لدى واشنطن لإسقاط عقوباتها على “حزب الله” والشخصيات السياسية المرتبطة به، توافق طهران على إشراك باريس في عملية تشكيل حكومة يتولّاها، في لبنان، “حزب الله”.
ولكن، هل فرنسا مستعدّة لذلك وماذا عن موقف واشنطن؟
من دون شك، تسعى فرنسا، منذ مدة الى تحييد “حزب الله” عن تهمة التورّط بالعرقلة الحكومية، وتكتفي بتوجيه لومها نحو الأطراف المحلية الأخرى، لافتة الانتباه إلى أنّ الحزب، في وضعية، من يرفض “اغضاب” حلفائه، لا أكثر ولا أقل. وتنهي النقاش هنا.
وقد فسّر كثيرون هذا المنحى الفرنسي، ومنذ مدة غير قصيرة، بأنّه يهدف الى إبقاء الباب مفتوحاً لتعاون “مثمر” مع ايران في لبنان.
وإذا ما جرى عطف كلام رئيسي عن فحوى اتصاله بماكرون، على هذا النهج الفرنسي، يتضح أنّ باريس موافقة على أن تكون في لبنان شريكة لإيران، بغض النظر عن بعض التفاصيل الصادمة التي يمكن تدوير بعض زواياها.
وممّا لا شكّ فيه أنّ فرنسا وإيران، في ضوء إعطاء واشنطن “البايدنية” الضوء الاخضر لتمرير الكهرباء والغاز الى لبنان، عبر سوريا، مسقطة لهذه الجهة، مندرجات “قانون قيصر”، تشتبهان بتراجع اميركي نوعي عن سياسات الضغط التي وضعتها ادارة دونالد ترامب.
وعليه، فإنّ فرنسا التي نالت الضوء الأخضر من رئيسي لتلعب دور الوسيط في موضوع الملف النووي الايراني، ستحاول أن تقنع واشنطن باتخاذ خطوات “تريّح” شراكتها الاحتمالية مع إيران في لبنان.
وهذا لا يعني إسقاط العقوبات الاميركية، بل غض الطرف عن التشدّد في العقوبات المفروضة، من جهة والامتناع عن فرض عقوبات جديدة، من جهة أخرى.
إنّ “محور الممانعة” يترك لفرنسا أن تنتظر الموقف الاميركي من الطرح الإيراني . هو، من جهته، افتتح موسم الاحتفالات بالانتصار “المحتمل”، ورأّس بشّار الأسد اللجنة المشرفة على المهرجانات التي بدأت فاعلياتها، بإهانة الرمزية اللبنانية، بحيث تمّ تغييب العلم اللبناني عن اجتماع وفدي البلدين للبحث في استجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية، ومن ثمّ بدأ باستدعاء وفود معروفة صلتها التبعية بدمشق، ليلقي عليها الأسد طروحاته المعروفة عن مفهومه المشوّه لحقيقة الشعب اللبناني ومشاعره وتطلّعاته.