جاء في “الراي”:
شتّان بين ألمانيا ولبنان. هناك كانت المستشارة أنجيلا ميركل تُطَمْئن شعبها في معرض الحضّ على تلقي التطعيمات ضد «كورونا» إلى «أن أحداً منا لم يكن بالتأكيد ولن يكون بأي شكل أرنب تجارب عند التلقيح».
وفي «هنا بيروت» أفظع أشكال «التجارب» يُخضع لها شعبٌ في قوته ومكامن قوّته، في ماله واقتصاده، في الخيارات السياسية التي «يُساق» إليها، كما في مستقبله الذي «رُمي» في حفرة… بلا قعر.
وليس مبالغة هذا التوصيف الذي أعطتْه أوساط سياسية لواقع الحال في لبنان حيث بلغ «الهذيان السياسي» الذي صار يثير «الغثيان» في المجتمعين العربي والدولي حدّ استسهال زجّ أبناء «بلاد الأرز» في «التجربة القاتلة» واختبار مغامرة «انتحارية» قوامها إدخالهم الجحيم والخروج منه «أحياء يُرزقون».
وما عملية «التمثيل» المتمادية بـ «جثة» الدولة ومؤسساتها والتعذيب «على مدار الساعة» للبنانيين سوى العيّنة الأكثر نفوراً عن ترسُّخ ذهنية «وبعدي الطوفان» في مقاربة مجمل الوضع في الوطن الصغير وأزمته الشاملة والتي يشكّل أبرز تعبيراتها التلكؤ المستمر في تأليف الحكومة الجديدة التي تَمْضي بالسير «على حَبْلَيْ» التفاؤل المصطنع بولادةٍ وشيكة والتشاؤم الواقعي بأن الانفراج لم يحِن أوانه بعد رغم ملامح الانفجار الكبير التي تطلّ من عناوين حياتية ومن قلب «أفواه البراكين» التي عُلّق لبنان فوقها.
ولم يكن مفاجئاً أن تتبدّد في شكلٍ كبير «الهبّةُ الإيجابية» التي دهمت عملية التأليف في الساعات الماضية، وسط ملامح معاودة تظهير الأبعاد الخفية التي تحكّمت بمجمل الملف الحكومي في الأشهر الـ 13 الماضية، أي مع السفير مصطفى أديب ثم الرئيس سعد الحريري وحالياً الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، والتي تختصرها «حرب باردة» متعددة الجبهة لرسم حدود الصلاحيات الدستورية، وترسيم النفوذ على مستوييْن:
الأول انتخابياً في ضوء الأجندة التي يزدحم بها «دفتر مهمات» الحكومة العتيدة لإدارة الانتخابات البلدية والنيابية وربما التحوّل لاعباً رئيسياً في الاستحقاق الرئاسي (خريف 2022) و«عض الأصابع» المتوقّع والمعتاد حوله بعد أن تنتقل إليها صلاحيات الرئاسة الأولى ما أن يسكن الشغورُ كرسيها.
والثاني ترسيم النفوذ السياسي في ظل المعاينة اللصيقة للحكومة المنتظرة دولياً خصوصاً خليجياً لتكون جسر عبور، ليست فقط لضبْط الفساد «التقني» وإجراء الإصلاحات المالية، بل الأهمّ لتحقيق ما يشبه عملية «إعادة الانتشار» للبنان الرسمي على خريطة المنطقة وتموْضعاتها الاستراتيجية وتحقيق إصلاح سياسي بمعنى وضْع حد لتمكين «حزب الله» لبنانياً وما يُعتبر استفادةً له من منظومة متكاملة للإمساك بمفاصل القرار في «بلاد الأرز» والمضيّ بمشروعه الاقليمي كخطٍّ متقدّم لإيران وتمدُّدها.
وإذ يختزل هذان البُعدان «كل الحكاية» في الملف الحكومي، فإن يوم أمس الذي شهد تشييع رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبدالأمير قبلان، لم يحمل أي تطوراتٍ ما خلا تبيان أن التفاؤل الذي جرى ضخّه يوم الاثنين لم يكن أكثر من «بالون اختبار» ارتكز فقط على استئناف وساطة اللواء عباس ابراهيم وعلى «ديبلوماسية الهاتف» بين باريس وطهران والتي يصعب تَصَوُّر أن تختصر كل التقاطعات الاقليمية – الدولية المطلوبة لفكّ أسْر الحكومة.
يجري كل ذلك فيما البلاد تقترب من «لحظة الحقيقة» في موضوع رفْع الدعم الكامل عن المحروقات الذي يُخشى أن يصبح أمراً واقعاً بحلول منتصف الشهر الجاري أو الأسبوع الذي يليه بفعل نضوب مخزون البنزين والمازوت الذي لم يَعُد يكفي إلا لأيام، وسط تقارير عن أن مصرف لبنان المركزي توقف عن إعطاء موافقات لاستيراد المحروقات المدعومة على دولار 8000 ليرة والذي كان مقدَّراً أن «تصمد» الأموال المخصصة له حتى نهاية سبتمبر.
وتقاطعت معطيات أمس، عند أن مرحلة قاسية تتربّص باللبنانيين الذين لم «يرتاحوا» أصلاً من أزمة المحروقات منذ إقرار ما قيل إنه «المرحلة الانتقالية» الأخيرة قبل رفْع الدعم الكامل، إذ زادت الطوابير على المحطات طولاً وتفاقم فقدان المازوت لزوم تشغيل قطاعات حيوية مثل الأفران وإضاءة بيوتات اللبنانيين عبر مولدات الأحياء، فيما لا يُعرف إلى متى ستعين العشرة ملايين دولار التي خصصتها الأمم المتحدة من أجل شراء الوقود لمستشفيات ومحطات مياه في لبنان.
وفيما كان القيمون على قطاع المحروقات يؤكدون أمس أن لا بواخر تنتظر على السواحل اللبنانية «والكميات المتبقية من المازوت تكفي فقط حتى نهاية الأسبوع» وأن فتح اعتمادات لباخرة أو 2 «لن ينفي أن الدعم لن يكمل شهر سبتمبر»، لفت عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات جورج البراكس، إلى أنه ما لم يوقّع المركزي «أي موافقة جديدة سنذهب إلى رفع الدعم وسيقارب سعر صفيحة البنزين 300 ألف ليرة (إذا مش أكتر)”، من دون أن تتضح آلياتُ الاستيراد بعد تحرير السعر وهل سيكون كاملاً، وهل سيبقى لـ«المركزي» دور في هذا الإطار، ومن أين سيتم توفير الدولارات للاستيراد وكيفية التوفيق بين فتْح الاستيراد وتفادي تحليق العملة الخضراء لمستويات خيالية بعد أن «تتدافع» كل القطاعات على دولارات السوق الموازية.
وتأتي «عاصفة المحروقات» والتي يُتوقَّع أن تكون عاملاً توتيرياً في المشهد اللبناني، ما لم تكن تشكّلت الحكومة، على أبواب استنئاف العام الدراسي حضورياً، ما ينذر بأن يشكّل «لغماً إضافياً” في طريق العودة الى الصفوف ما لم يتم توفير آليات معقّدة تتيح للمعلّمين تكبُّد أكلاف الانتقال إلى مكان عملهم وللأهالي حِمْل هذا العبء «الكاسر»، هذا إذا نتج من رفْع الدعم انتظام مدّ السوق بما يكفي من بنزين ومازوت كفيل لوحده بإنهاء الطوابير وتالياً قتْل السوق السوداء، وذلك بمعزل عن ضرورة وقف التهريب إلى سورية الذي سيكون أيضاً أمام اختبار جديد.