جاء في المركزية:
وكأن الزمن في هذه البلاد لا يتحرك إلا ليسلب اللبنانيين أعمارهم وأرزاقهم في وطن لم يتعلم أبطال سياساته الفاشلة، في معظمها، أن بلدا كلبنان لا يجوز أن يبقى قرار الحرب والسلم فيه سائبا وبعيدا عن سلطة الدولة لصالح قوى الأمر الواقع، حاملة السلاح والأجندات الاقليمية، خصوصا أن قدره الذي قد يذهب البعض إلى وصفه بالـ “ملعون” أراد له أن يعلق بين دولتين: إحداهما لا تعترف به، فيما هو لا يعترف بالأخرى، كما كان يحلو للنائب والوزير الراحل لويس أبو شرف القول.
قد يقول البعض إن النضال في سبيل هذا الهدف النبيل قد يكون في غير زمانه ومكانه بينما يقاسي اللبنانيون أحد أعتى الصراعات الوجودية والحياتية في تاريخهم الحديث. لكن قراءة أخرى تفيد بأن الدعوة إلى حصر السلاح والقرار في يد الدولة اللبنانية معركة لا تنفك تكتسب أهمية يومية، خصوصا أن الصراع العربي الاسرائيلي الذي دخل عليه العامل الايراني بقوة لا يزال دائرا على أشده، ولا يوفر بألسنة ناره لبنان، حيث أن حزب الله لا يزال يدير دفة قرار الحرب والسلم تبعا لمجرى الأحداث الاقليمية وبعض الأجندات الخارجية.
ذلك أن واحدة من أقوى جولات هذا الصراع سُجلت في خضم الاجتياح الاسرائيلي للبنان في حزيران 1982، الذي بدأت فصوله بعدما قررت الحكومة الاسرائيلية الرد على عملية اغتيال سفيرها في المملكة المتحدة على يد عناصر منظمة التحرير الفلسطينية. إلا أنها لم تجد أفضل من لبنان ساحة لتنفذ ردها هذا، فيما استفاد الفلسطينيون من اتفاق القاهرة المشؤوم الموقع عام 1969 ليطلقوا مقاومتهم ضد اسرائيل من الأراضي اللبنانية. فكان أن غرق الوطن الصغير في الصراعات الخارجية وفي حرب أهلية كانت كل مكوناتها اللاهبة جاهزة، ولم ينقصها إلا فتيل بحجم بوسطة عين الرمانة والاستفزازات الفلسطينية لمكونات لبنانية عدة لتشتعل وتنشر الدماء على طول الخريطة اللبنانية.
وبينما كان لبنان يمعن، عن طريق بعض القادة، في الغرق في وحول الحروب التي كان العرب والمجتمع الدولي يريدون إبعاد كأسها المر عنهم وعن دولهم، كان الكيان العبري يجمّل صورته أمام مجتمع دولي هالته بعض مظاهر الاجرام في حق الأطفال والنساء والعزّل، وعالم عربي مليء بالثروة النفطية، الكنز الضروري لنهضة دولة قامت أسسها الأولى على العداء لكثير من الشعوب.
هكذا، وبعد عقود من الحروب المطبوعة بالنكسات، على رغم انتصار 1973، ركب عدد من الدول العربية قطار تطبيع العلاقات مع العدو الأول لهم، بعدما كان الزعيم جمال عبد الناصر هدد تل أبيب مرارا بأن “مئة مليون عربي سيواجهونها، في ما لو فكرت في إشعال الحرب على الشرق الأوسط”.
بفعل الضغط الأميركي من الحليف الوثيق دونالد ترامب، رضخ العرب للقرار الدولي: حان وقت التفاهم العربي مع إسرائيل. لكن هذه الخطوة لم تأت من باب الحرص الدولي على المصلحة العربية، بقدر ما أتت ضربة لايران وأذرعها في المنطقة، بدليل أن الحروب الاسرائيلية في غزة وسواها من المناطق الفلسطينية مستمرة وبشراسة.
لكن هذا كله في واد… والهم اللبناني في واد آخر: ذلك أن العبرة الأولى الواجب استخلاصها تكمن في ضرورة استعادة السيادة والقرار الوطني في ما يخص الحرب والسلم لأن لبنان بات اليوم يدفع وحيدا ثمن صراع يريد العرب طي صفحته، فيما تدفع طهران في اتجاهه تزامنا مع مفاوضات شاقة مع المجتمع الدولي الذي لم ولن ترفع الولايات المتحدة المظلة عنه في القريب العاجل. وإذا كانت جبهة الجنوب هادئة منذ سنوات، ما خلا بعض الخروق الموضعية عند الحدود، فإن كل ما يجري يثبت أن السلاح ما عاد للمقاومة وخدمة القضية الفلسطينية والعربية المحقة، بقدر ما بات أداة في يد حزب الله لفرض ايقاعه ومعادلاته السياسية والنيابية والرئاسية والميدانية على الداخل.