كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
إنّ التغيير من الخارج ليس بيد اللبنانيين كونه يتوقّف على الدول الكبرى وحساباتها ومفاوضاتها، فيما التغيير من الداخل يتوقّف على إرادتهم.
إنّ التعويل على الخارج يفترض ان يكون الاستثناء لا القاعدة، لأنه بالتجربة «ما بيحكّ جلدك غير ظفرك»، فلو لم تتكئ المقاومة اللبنانية مثلاً على نفسها في مطلع الحرب اللبنانية لكان لبنان تحوّل إلى الدولة البديلة، وعندما نجحت بالصمود أمّنت الدعم من هذه الدولة أو تلك، ولكن الأساس كان في اتكائها على نفسها وقوتها.
وأي مراجعة للمؤازرة الدولية للبنان منذ خمسة عقود إلى اليوم تفيد بأنها لم تفضِ إلى نتائج حاسمة لإنهاء الأزمة اللبنانية من خلال إعادة الاعتبار للدولة، وأقصى ما نتج عن هذه المؤازرة قرارات دولية مع وقف التنفيذ بانتظار ان تنضج الظروف، على غرار ما حصل مع إخراج الجيش السوري من لبنان، ولكن هذا الخروج لم يتحقّق سوى بعد انتفاضة مليونية في 14 آذار 2005 تبدّل معها الموقف الأميركي الذي دعا النظام السوري إلى تطبيق القرار 1559، إنما ماذا لو اكتفى النظام بسحب جيشه إلى البقاع؟
ولا يجب ان يَسها عن بال أحد انّ النظام الدولي الذي يعوِّل عليه البعض كثيرا تخلى عن لبنان طيلة فترة الحرب، والأسوأ فوّض إدارته لسوريا بعد انتهاء هذه الحرب لمدة 15 عاما، ولم يتدخّل لإنهاء سلاح «حزب الله» منذ خروج الجيش السوري، وهذا لا يعني القطع مع المجتمع الدولي، إنما مواصلة السعي لإقناعه بضرورة مساعدة لبنان على استعادة مقوماته السيادية، وهذا السعي لا يعني التعويل حصرا على الخارج والاستقالة من اي دور داخلي الذي يبقى الأساس في فرض ميزان قوى سياسي يمهِّد الأرضية للمؤازرة الدولية الحاسمة، ولكن عبثا انتظار الخارج من دون إنضاج ظروف داخلية مواتية.
فالتعويل على الخارج، تِبعاً للتجربة والوقائع، هو الاستثناء غير المرتبط بتوقيت ولا بإرادة اللبنانيين، ولكن هذا لا يعفي من ضرورة تفعيل كل القنوات الديبلوماسية اللازمة من أجل وضع الملف اللبناني بندا أساسيا على جدول المفاوضات الدولية مع إيران وتحويله إلى شرط ملزم لأي اتفاق نووي معها برفع يدها عن هذا البلد، عن طريق الطلب من «حزب الله» تسليم سلاحه للدولة والالتزام بتحييده.
وهذا الهدف ممكن التحقّق خصوصاً إذا ما ترافقَ مع ضغط دولي ومطلب فاتيكاني، ولكن من يستطيع تقدير توقيت تحقيقه، أو توقّع مصير مسار المفاوضات مع طهران التي لن تتنازل بسهولة عن ورقتها اللبنانية، كما لا يجب إسقاط احتمال ان تبقى الأمور على هذا المنوال لسنوات عديدة ومديدة، وهذا لا يعني التخلّي عن هذا الخيار، إنما إبقاؤه كورقة وخيار واحتمال من دون تعليق وحصر كل الرهانات عليه.
وفي موازاة هذا الهدف الذي يجب وضعه في خانة الاستثناء، فإن القاعدة هي في التعويل على الذات ضمن حدّين أدنى وأقصى، والحد الأدنى يعني التموضع الدفاعي بالشكل الذي يمنع الفريق الآخر من وضع يده على الوضعية اللبنانية وإبقاء الأمور في سياق المراوحة القائمة، والحد الأقصى يعني الوصول إلى أكثرية شعبية ونيابية تضع الفريق الآخر أمام أمر واقع لا يمكنه تجاهله ويفرض عليه التعامل معه.
صحيح انّ قوى 14 آذار نجحت بانتزاع الأكثرية النيابية لمرتين متتاليتين في عامي 2005 و2009، لكنها لم تتمكّن من تحقيق مشروع الدولة للاعتبارات الآتية: اللجوء إلى الاغتيالات والحرب واستخدام السلاح، التراجع والمساومة والتسوية خشية من الأسوأ، استخدام سلاح الفيتو المذهبي بسبب قدرته على إقفال الطائفة الشيعية.
وتحقيق اي تغيير يستدعي الحصول على أكثريتين: أكثرية نيابية باتجاه لبناني واضح المعالم لا تساوم على الدولة ومشروعها، واكثرية شيعية او أقلية قادرة على الربط مع الأكثرية النيابية وتغطيتها شيعياً، لأنّ الواقع التعددي اللبناني يفترض تحقيق اي مشروع على قاعدة التوافق اللبناني-اللبناني، ولن تعمّر اي تسوية في حال لم تكن نابعة من توافق وقناعة باعتبار انّ الفرض لا يدوم والقهر يصنع تسويات مؤقتة ليست دائمة ولا ثابتة.
ومن هنا ضرورة الوصول إلى أكثرية لبنانية داخل كل الطوائف، وفي حال تعذّر تحقيق هذا الأمر وتم تحقيق أكثرية نيابية، فعلى الأخيرة ان تتحلى بالجرأة من أجل وضع «حزب الله» أمام أمر واقع واضح المعالم: إما الوصول إلى تسوية بعنوان الدولة، وإما لا مساكنة ولا تعايش ومواجهة سياسية مفتوحة بخيارات انفصالية على قاعدة وطنية لا طائفية ولا مذهبية، لأنه ما دون ذلك يعني استمرار المراوحة والتخبُّط واحتفاظ الحزب بالورقة اللبنانية.
ويفترض ان تكون المحطة الانتخابية النيابية حاسمة لتقرير مصير لبنان والتعامل معها على قاعدة ان ما قبلها غير ما بعدها، خصوصاً في حال أدّت إلى نتائج حاسمة وأكثرية واضحة، فلا حلّ للأزمة اللبنانية بالرهان على خارج لديه أولويات أخرى، وليس بوارد أساساً فَرض حلول في ظل واقع انقسامي. وبالتالي، انّ التعويل الأساس هو على طريقة اقتراع الناس ومن ستفوِّض في الانتخابات المقبلة، ومن ثمّ التعويل على إدارة الأكثرية الجديدة للدولة، ففي حال دخلت في أي تسوية مع «حزب الله» يعني تفويتها للمومنتم الجديد، وفي حال العكس يعني انطلاق مسار الحلّ في لبنان بمعزل عن الوقت الذي يمكن ان يستغرقه.
فالأساس يكمن في أمرين: أن يُقلع الشعب اللبناني عن رهاناته الخارجية إما بانتظار ما ستفضي إليه مفاوضات فيينا، أو ترقّب تبدُّل الإدارات الأميركية وغيرها. والثاني أن يُصمِّم الشعب اللبناني على إنهاء أزمته بيده، لأن أحداً لن يساعده ما لم يساعد نفسه، خصوصا انه لم يعد مسموحاً بعد الانهيارات التي شهدها البلد ان تستمر الأزمة فصولاً، وان يتواصل الترقيع بدلاً من الحلول الجذرية.
لكنّ الحلول الجذرية تتطلّب وجود جبهة سياسية تتحدّث بلغة واحدة وترفع مطالب موحدة، لأن التسويات تحصل بين فريقين متنازعين وتوازن رعب لا يسمح لأحد بان يكسر على الآخر، فيما المستفيد الأكبر من الفرطعة الحالية هو «حزب الله»، وما لم تنته هذه الفرطعة مع الانتخابات بان تتوحّد الكتل السيادية الفائزة وتدعو لحوار وطني من أجل إنهاء الأزمة، فيعني استمرار القديم على قدمه.
فالانتخابات ليست مناسبة لقياس حجم هذا الفريق أو ذاك، إنما محطة لتعيد بنتائجها تجميع القوى السيادية وتوحيدها، وان ترفع البطاقة الحمراء في وجه «حزب الله» وإنهاء منطق Business as usual السائد، وفي حال استمرت المناكفات والخلافات داخل الصفوف السيادية، وفي حال الدخول في أي تسوية مرحلية مع الحزب بعد الانتخابات، فإنّ ذلك يعني تطيير مومنتم الانتخابات وإبقاء لبنان في دائرة المراوحة والنزاع والأزمات المفتوحة.
فالخروج من الأزمة اللبنانية المستمرة منذ عقود هو ملك اللبنانيين وحدهم، فإمّا أن يبادروا لإنقاذ أنفسهم والبلد وإما ستبقى الدولة فاشلة ولبنان معزول والشعب مذلول..