بين مَراسيم ولادة حكومةٍ قد لا تولد أبداً، ومَراسِم «جنازةِ» وطنٍ قد لا يخْرج «حياً» من أعتى أزمة شاملة تضربه ودخل معها التاريخ من «أبوابه الجهنّمية»، يترنّح لبنان على وقع اشتدادِ عصْفِ الانهيارات المتلاحقة المالية – الاقتصادية – المعيشية التي تُنْذِر بردْم آخِر كوة يمكن النفاذ عبْرها من الحفرة… القاتلة.
ولم تَعُد الطبقةُ السياسية في لبنان تستخدم أي «أقنعة» للتعمية على احتراف لعبةَ انتظارٍ فتّاكة باتت تدور على «حافة قبرٍ» كأنه يُحفر لـ «بلاد الأرز» وشعبها الذي «يحترق» بجمْر أزماتٍ أطلقت مساراً مخيفاً من «تشييعٍ» يتمدّد يومياً لقطاعاتٍ «لا حياة من دونها» ولكن المعنيين بملف تشكيل الحكومة يعتقدون أن بالإمكان التغطية عليه عبر إشاعة مناخاتٍ مفتعلة من إيجابياتٍ أو محاولة «تنميق العقد» الكابحة للتأليف وإخفاء ما لم يكن يوماً خافياً منها.
ولم يكن أدلّ على ذهنية التعاطي مع «الانهيار الجارف» بخطواتٍ متأخّرة وتسْبقها كل مرة الوقائع المتدحْرِجة من إطلاق البطاقة التمويلية التي كان يفترض أن توافر «هبوطاً آمناً» من رفْع الدعم الكامل خصوصاً عن المحروقات، فإذ به «يباغتها» ويصبح بحُكْم «المُحقَّق» على الأرض بقوة الأمر الواقع.
وحتى لو أن السلطة أرادت تكييف هذه «المعونة» مع الموعد «غير الواقعي» الذي رسمتْه لتحرير سعر المشتقات النفطية (نهاية سبتمبر الجاري)، فإن مهلة الشهر التي حُددت لتلقي طلبات الاستفادة من البطاقة (بين 15 سبتمبر و15 اكتوبر) من مئات آلاف العائلات الأكثر فقراً ثم درْسها وبعدها انطلاق عملية الدعم المالي تشكل بالحدّ الأدنى إدانة لحكومة تصريف الأعمال والمعنيين بهذا الملف، في ضوء التداعيات الكارثية لترْك غالبية اللبنانيين الذين باتوا «مسحوقين» يتلقون «رصاصة في الصدر» قبل توفير «السترة الواقية».
وفي التدقيق بإطلاقِ البطاقة التي يحصل بموجبها كل فرد من الأُسر المستحقة على 25 دولاراً على أن يكون الحدّ الأقصى لدعم العائلة هو 126 دولاراً (مع إمكان زيادة المبلغ لاحقاً)، يتّضح أنها انطوتْ على «لغم» شكّله ترْك الباب مفتوحاً أمام عدم دفْع المبلغ بالدولار الذي يضمن حفْظ القيمة الشرائية، وذلك عبر الإشارة إلى إمكان السداد «بما يعادله بالليرة اللبنانية وفق سعر السوق الموازية في حينه».
وجاء إعطاءُ إشارةِ الانطلاقِ للسير بالبطاقة على وهْج التوترات الجوّالة على محطات المحروقات، وقفْل بعضها بقرارات قضائية تفادياً لإشكالاتٍ خطيرة تتكرّر عليها، ناهيك عن الطوابير «الخيالية» التي حوّلت طرقاً رئيسية «قفصاً كبيراً» للسيارات التي تحاول استباق نضوب المخزون المدعوم (على دولار 8 آلاف ليرة) وعدم تبيان ما سيلي لجهة كيفية الاستيراد وآلياته وفق السعر المحرَّر، وسط اقتناعٍ بأن «إبرة المخدّر» بما يناهز وسطياً 100 دولار للعائلة لن تكون كفيلة بتغطية الارتفاعات الكبرى التي ستترتّب على تحليق أسعار البنزين والمازوت والتي تطاول مختلف أوجه يوميات اللبنانيين، بدءاً من اشتراكات مولدات الأحياء التي سـ «تأكل» تكلفة الـ 5 أمبير فيها لوحدها كل مردود البطاقة، قبل الحديث عن الزيادات «المركّبة» التي ستطرأ على أسعار كل السلع ووسائل النقل في مختلف القطاعات.
ولم يقلّ «إثارة للذعر» في صفوف اللبنانيين مضيّ قطاع الاستشفاء من التحذير من المنحى «المدمّر» الذي انزلق إليه نتيجته انكشافه على الأزمة المالية وأخواتها، وسط «سقوط» مستشفى الجنوب شعيب في صيدا متأثّراً بفقدان المازوت وإعلانه «قفْل أبوابه أمام جميع المرضى بمن فيهم مرضى قسم غسيل الكلى وذلك بدءاً من ظهر أمس بسبب عدم تزويدنا بالديزل اويل»، وذلك فيما كانت المستشفيات تطلق نداءَ استغاثةٍ جديداً من واقعها الدراماتيكي في ضوء النقص الحاد في الأدوية الحيوية والمستلزمات الطبية واستنزاف طواقمها التمريضية والطبية بالهجرة.
ولعلّ ناقوس الخطر الأكثر رُعباً الذي أطلقته نقابة المستشفيات الخاصة خلال لقاء عُقد أمس مع عدد من ممثلي السفارات العاملة في لبنان والمنظمات غيرالحكومية، المحلية والدولية لمطالبة المجتمع الدولي بالمساعدة على الصمود وتأمين صندوق لدعم المرضى، تمثّل في إشارة النقيب سليمان هارون الى أنه «مع حد أدنى رسمي للأجور يناهز الدولار الواحد في اليوم، لم يعد بإمكان هذا البلد تحمّل تكاليف علاج مرضاه بالأدوية والمستلزمات والمعدات الطبية المستوردة من الغرب. والآن، مع الرفع التدريجي للدعم، نتجه نحو كارثة حيث لن تتمكن غالبية السكان من الحصول على العلاج سواء داخل المستشفيات أو خارجها، بينما الدولة غير قادرة على مواجهة هذا التحدي. سيموت الناس في المنزل أو حتى في المستشفيات بسبب نقص العلاج المناسب».
على أن هذه الصورة المُفْجعة لا تبدو كافية لتحريك ولو حَجَر في الجدار المقفل حكومياً والذي ارتسمت على تخومه في الساعات الماضية معادلة واضحة في معرض تقاذُف المسؤولية عن استعصاء التأليف بين رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه وبين الرئيس المكلف نجيب ميقاتي بما عَكَسَ أن «أوقاتاً إضافية» قد تمرّ قبل حلول ساعة الانفراج بالتشكيل الذي يصطدم بتعقيدات سياسية تتمحور خصوصاً حول الثلث المعطّل، أو الانفجار باعتذارٍ يرفض ميقاتي أقلّه في الوقت الحالي الإقدام عليه «حتى تُحسَم الأمور سلباً بالمُطلَق، وهو ما لن يكون لمصلحة أحد، بل سيكون بمثابة السحر الذي لن ينقلب على الساحر فحسب، بل على جميع اللبنانيين من دون استثناء» وفق ما نقل قريبون منه (عبر موقع لبنان 24).
فمن خلْف ظهر المهل الافتراضية للحسم الحكومي وتحديد مواعيد عبر وسائل الإعلام على طريقة «مذكرات الإحضار» للرئيس المكلف لزيارة قصر بعبدا، برز بوضوح أن ثمة محاولةً من فريق عون لتظهير أنه قدّم ما عنده من تسهيلات في عملية التأليف وأن عدم ملاقاة ميقاتي هذا الأمر والإصرار على «تقلّبات» في ما خص أسماء وحقائب يعني أنه «أسير التزامات قدّمها» لرؤساء الحكومة السابقين ولا سيما زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، وأن هذا الأمر هو من ضمن مسار لضرب العهد وترْكه بلا حكومة حتى نهايته أو السعي لتقصير ولاية عون في إطار جبهة لا يغيب عنها رئيس البرلمان نبيه بري.
في المقابل، يعتبر خصوم عون والأجواء التي تحوط برؤساء الحكومة السابقين أن رئيس الجمهورية وفريقه يتعاطى مع ملف الحكومة على طريقة الحصول على «كل شيء أو لا شيء» بحيث إن هذه «فرصته» لضمان موقع صهره رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في المعادلة السياسية من بابٍ «تقريري» في الحكومة يوفّره له الثلث المعطّل، أياً كانت مسمياته، وذلك مهما كان الثمن، معتبرين أن «معركة رئاسة الجمهورية هي التي تُلعب في حلبة الصراع الحكومي»، ومحذّرين من أن «كثر الدق يفك اللحام» وأي «إحراج جديد لرئيسٍ مكلف لإخراجه» سيعني رفْضاً لدور المكوّن السني وموقعه في النظام وتوازناته وسيجعل ما بعده مفتوحاً على معارضة أي تعايُش دستوري مع عون.
وفيما لم يحْمِل الملف الحكومي أمس أي إشاراتٍ جديدة، توقّفتْ أوساط سياسية عند زيارة قام بها السفير السعودي وليد بخاري، لبري الذي يتلقى التعازي برحيل رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبدالأمير قبلان، وذلك على وقع رصْدٍ للتداعيات السياسية لإعلان الرياض إحباط «محاولة إحدى شبكات إنتاج وتهريب المخدرات المرتبطة بتنظيم حزب الله اللبناني الإرهابي تهريب (451.807) أقراص إمفيتامين مخبأة داخل معدات ميكانيكية إلى المملكة، بحراً من لبنان إلى نيجيريا»، وأن ضبْطها تم في نيجيريا قبل شحنها إلى دولة أخرى وإرسالها الى المملكة.
وفي موازاة ذلك، استوقف دوائر متابعة موقف لكتلة نواب «حزب الله» بدا محمَّلاً برسائل ضمنية، اعتبر فيه «أن إبقاء لبنان من دون حكومة فاعلة وناشطة هو هدر موصوف لمصالح البلاد واللبنانيين وتضييع مؤسف لفرص إنقاذية وإنمائية، وإفراط لدى الأفرقاء المعنيين مباشرة بالتأليف في توهم القدرة لاحقاً على استدراك ما فات، من خلال التحكم بدفة إدارة الاستحقاقات الدستورية المقبلة».
ولم تحجب هذه العناوين اللاهبة الأنظار عن زيارة رئيس اللجنة العسكرية في الاتحاد الأوروبي الجنرال كلاوديو غراتسيانو لبيروت على رأس وفد كبير، حيث أبلغه عون «ترحيب لبنان بأي دعم يقدّمه الاتحاد الأوروبي للمساعدة على تجاوز الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمر بها اللبنانيون، نتيجة تراكم الأزمات التي مرّت على لبنان خلال الأعوام الماضية»، ومتمنياً في سياق الإضاءة على «الوضع الذي تعيشه المؤسسات الأمنية اللبنانية، وفي مقدمها الجيش، وانعكاس الأزمة على التغذية والطبابة والمهمات العملانية وصيانة الآليات وغيرها» مساعدة الاتحاد الأوربي في هذا المجال «نظراً للدور المهم الذي يقوم به الجيش في المساعدة على الاستقرار الأمني الداخلي وعلى الحدود، بالتعاون مع اليونيفيل».
وكان غراتسيانو أوضح أن هدف الزيارة «الاطلاع على الأوضاع، لا سيما الأمنية منها وتقديم الدعم الى الجيش اللبناني في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان»، مؤكداً «استعداد الاتحاد الأوروبي لتقديم المزيد من الدعم للبنان»، ومشدداً على «أهمية الاستقرار فيه وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالساحة اللبنانية». وركّز على أهمية «استمرار الاستقرار في لبنان عموماً وفي المنطقة الجنوبية خصوصاً».
https://www.alraimedia.com/article/1553288/خارجيات/سباق-بين-مراسيم-الحكومة-ومراسم-دفن-فرص-إنقاذ-لبنان