كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
لن تطأ قدما أيّ رئيس مكلّف أرض السرايا الحكومية، إلّا بشروط الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل. ولا يمكن التراجع عن هذه الشروط، حتى ولو «تطربق» البلد ولم يبق فيه حجر على حجر!
هذا هو جوهر المنطق البرتقالي الذي قارب ملف التأليف منذ استقالة حكومة حسان دياب في آب من العام الماضي، وكسّر تكليفين، وها هو يكمّل ورشة الكسر مع التكليف الثالث.
وثمّة في هذا الفريق من يفاخر بأنّ عون قدّم نموذجاً فريداً في العناد والصمود امام كل محاولات ليّ الذراع الرئاسي، وحمله على القبول بما ليس مقتنعاً به، أو الخضوع للضغوط الهادفة الى إنزاله تحت سقف المعايير التي حدّدها كممر الزامي لأيّ حكومة جديدة.
منذ بدء الأزمة، وهذا المنطق يسوّق نفسه على أنّه «كلامٌ مُنزلٌ»، فالمعايير التي وضعها ترقى الى مستوى القداسة، وكل ما هو خارجها، أو متجاوز لها، مشكوك فيه، والتّهمة جاهزة، «نحن الصحّ، وكلّ الآخرين الغلط، نحن الوحيدون الذين نسعى إلى إنقاذ البلد وإخراج الشعب اللبناني من معاناته، وأما كلّ الآخرين فمعطّلون وما عم يخلّونا نشتغل». ولا ينسى هذا المنطق أن يصعد إلى قمة المبالغة، والتذكير بأنّ الرئيس القوي لن يتراجع، ولكن من دون ان يقولوا «قوي على مين»!
منذ بدء الشغور في رئاسة الحكومة لم يبق سبيل إلّا وتمّ سلوكه لتشكيل حكومة، أُدخل مصطفى أديب في «دوّيخة» لم يصدّق كيف خرج منها واعتذر، وسعد الحريري امضى 9 اشهر بين مدّ وجزر، والتأرجح من حكومة 14، الى حكومة 18، الى حكومة 24، إلى مسودة أولى ثم ثانية ثم ثالثة، عادوا الحريري مع أنّه كان حبيبهم أيام التسوية الرئاسية، ومنعوه حتى من تسمية وزير مسيحي، والذريعة «نحن اصحاب الحقوق، ونحن الممثل الشرعي للمسيحيين»!!
قبل نجيب ميقاتي بالتكليف لعلّه يتمكّن من أن ينجح حيث فشل، او بمعنى أدق، حيث فُشِّل الآخرون، لكن معايير عون وجبران ذاتها «عَوْمَدَتْ» في طريقه، وكل دروبها توصل الى الثلث المعطل، او الثلث المقرّر في الحكومة. حاول ميقاتي ان يعبر بين الألغام مدفوعاً بعزم جدّي للتأليف، فسعى الى تدوير زوايا المعايير، لكن تبدّى له أنّها معايير بزوايا حادّة غير قابلة للتدوير. تدخّل الوسطاء وفشلوا، وتعب اللواء عباس ابراهيم وهو يتنقل طالع نازل بين بعبدا والبلاتينيوم، وبدل الصهر الواحد، صار في الحلبة صهران، وما بين صهر عون وصهر ميقاتي صار كلّ شيء يدور حول نفسه، إلّا معايير عون وجبران بقيت هي الثابتة الوحيدة ولا تراجع عنها. وفي محاذاتها، غرف مغلقة عملها الوحيد ضخّ ايجابيات وهميّة لا أساس لها، وفي النتيجة انحدرت الامور الى ما دون الصفر.
الرئيس عون يقول انّه قدّم كلّ التسهيلات لتشكيل الحكومة، وفي كلامه هذا اتهام لكل الآخرين بعدم التجاوب معه. قال انّه لا يستطيع أن يقف متفرجاً على معاناة الناس اليومية، ولذلك لجأ الى كل ما هو متاح له للتخفيف من هذه المعاناة، سواء عبر عقد اجتماعات للمجلس الاعلى للدفاع او عقد جلسات وزارية في بعبدا. ولكن أهم ما هو متاح له، والذي من شأنه أن يرفع هذه المعاناة او على الاقل يضعها على سكة العلاج، لم يقاربه. فأمام معاناة الناس يهون كلّ شيء، وعلاجها اولوية فوق كل الاولويات الاخرى، وبالتالي فإنّ قلم توقيع مراسيم تشكيل الحكومة في جيبه، وما على يده سوى أن تقطع مسافة سنتيمترات لتسحب القلم من الجيب ويوقّع تلك المراسيم فتخف المعاناة .. وبلا «هاللبكة» كلها المستمرة منذ سنة وحتى اليوم.
تلك السنتيمترات القليلة الفاصلة ما بين يد الرئيس وجيبه، جعلتها معايير عون وجبران مسافة مصيرية. وقلم التوقيع هو السلاح الوحيد المتبقي في يد الرئيس، المستخدم في محاولة تعويض كل إخفاقات السنوات الخمس من الولاية العونية. فكيف يمكن ان يتخلّى عنه هكذا بسهولة.
فقلم التوقيع هذا، يدرك انّ تيار الرئيس شهد في فترة معيّنة صعوداً لم يسبقه اليه احد في الداخل، حتى بلغ التسونامي الجارف للشارع المسيحي. وهو وضعٌ لا يستطيع أحد انكاره. ولكن في الوقت نفسه لا أحد يستطيع ان ينكر، او يهرب من حقيقة انّ تيار الرئيس تعرّض لحال هبوط مريع في السنوات الأخيرة، وصدمات لم يكن ينتظرها، أثقلت رئيسه جبران باشتباكات سياسية مع الجميع، من دون استثناء، وبطموحات رئاسية مكسورة وبعقوبات أميركية قاصمة.
كلّ ذلك أنزل التيار عن عرش التمثيل المسيحي الحصري، الى رتبة شريك متواضع في هذا التمثيل، الى جانب قوى مسيحية اساسية، صار لها حضورها الفاعل، ونمّته إخفاقات التيار وسياساته الإلغائية لكل هؤلاء. ومن الطبيعي أمام هذا الوضع، ان يقلق تيار الرئيس ممّا هو مقبل عليه بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. فبعد الولاية سيجد نفسه امام صراع مرير للبقاء على قيد الحياة السياسية، امام جبهة واسعة من الخصوم يسنّون أسنانهم في كل يوم للنيل منه.. والانتخابات النيابية بعد اشهر قليلة، أقل ما يُقال عنها إنّها معركة تصفية حساب معه.
على هذا الأساس، فإنّ كلّ يوم يمضي من الآن وحتى موعد انتهاء الولاية في 31 تشرين الاول 2022، له ثمنه بالنسبة الى تيار الرئيس، ولذلك تراه مستميتاً في محاولة بناء التحصينات المسبقة لمرحلة ما بعد الولاية، وجعل السنة الاخيرة من ولاية عون فرصة لاستعادة شعبية متآكلة، عبر اللعب على أكثر الأوتار حساسية في الشارع المسيحي، تحت عناوين مختلفة، على شاكلة صلاحيّات رئيس الجمهوريّة وحقوق المسيحيّين، ومحاولة فرض حكومة بالشّروط العونيّة (9 وزراء مسيحيين يختارهم الرئيس، أيّ الثلث المعطّل) التي من المؤكّد انّه لن يتراجع عنها طالما انّ في يده سلاح التوقيع، ذلك انّ حكومة دون تلك الشّروط معناها انتهاء العهد قبل نهاية ولايته، وتسليم رقبة التيار الى خصومه.
ولكن هل سيتمكّن عون من فرض شروطه ومعاييره في تشكيل الحكومة؟
الثابت في موازاة تلك الشروط، انّ سائر الأطراف السياسية «ملسوعة» من تيار الرئيس والصّهر. والقبول بشروطه، التي يسمّيها عون وجبران «معايير» في جوهرها ثلث مقرّر ومتحكّم بالحكومة، معناه تجيير البلد والحكومة وقرارها لهذا الفريق. علماً انّ تلك الشروط ليس القصد منها إخراج البلد من مأزقه، بل هي شروط لإخراج التيار من مأزق هو أسقط نفسه فيه، وبالتالي يستحيل على ايّ من هذه الأطراف السياسيّة أن يتبرّع بالترياق لفريق سمّم البلد، وسمّم علاقاته بالجميع، ونزّه نفسه وشيطن كلّ الآخرين، وسلوكه انتقامي من الجميع، بحيث لم يترك للصلح مطرحاً مع أحد، ولم يكتفِ بذلك، بل بثّ السمّ حتى في جسمه.. خلاصة الكلام هنا، أنّ أيّ ترياق يُقدّم لهذا الفريق، عبر القبول بشروطه، يُخرجه من مأزقه وحده، لكنّه في المقابل يعمّق مأزق البلد أكثر. فهل من عاقل يُلدغ من الجحر مرتين؟!
ولكن هل ثمة مخرج؟
تيار الرئيس، يرى أنّ المخرج بالقبول بشروطه. ومعارضو تلك الشروط يرون المخرج بحكومة متوازنة. وكما هو واضح، فإنّ الهوّة سحيقة بين المنطقين، وردمها، وكما يتبدّى من دوامة التأليف ومماحكاته، من سابع المستحيلات.. وفي أحسن تقدير، فإنّ الحكومة رُحِّلت حتى الإنتخابات. الّا إذا حصلت معجزة أعادت توطين عقل الرحمن في بعض الرؤوس، وأعطت الإذن بالإفراج عن الحكومة؟!