كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
وأخيراً قضي الامر وحمل المرسوم رقم 8376 البشرى السارة بما تضمنه من اسماء 24 وزيراً في حكومة رئيسها محمد نجيب عزمي ميقاتي، ليضع حدّاً لمناكفات سياسية استمرت على امتداد 13 شهراً بما شهدته من تدهور اقتصادي ومالي قل نظيره. بضمانات مرضية لميقاتي وحصة وازنة لرئيس الجمهورية ابصرت الحكومة النور بتوافق على وزيرين مسيحيين (نجلا رياشي ووليد نصار)، وتعيين وزير سني لعون مقابل مسيحي لميقاتي، لتكون النتيجة ثمانية وزراء للرئيس عون ووزيرين توافقيين، في حكومة لا ينطبق عليها توصيف ثلاث ثمانات، وليخرج رئيس “التيار الوطني الحر” المنتصر الاول في تشكيلة حكومية جاءت مطابقة للمفاوضات التي خاضها شخصياً في الايام الاخيرة، قبل اعلان ولادتها بالتعاون والتفاهم مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
يسجل لميقاتي مرونته وحرصه على انجاح المفاوضات والسير عكس تيار المحيطين به، ممن سجلوا اعتراضهم على صيغة الحكومة بالشكل الذي خرجت به وحذروه من النتائج. وفي اللحظات الاخيرة تبلغ الجميع رسالة الاميركيين والفرنسيين واعتذروا عن تحمل تبعات الاستمرار في الرفض والعناد. يمكن القول إن ما شهدته الساعات الاخيرة لولادة الحكومة اشبه الى حد بعيد بظروف انتخاب ميشال عون رئيساً حيث سلم الجميع بالقرار الدولي والمتغيرات وكذلك حصل اليوم. فرئيس مجلس النواب نبيه بري ورغم كل من حاول التعطيل في ربع الساعة الاخير ابلغهم عدم الامكانية في السير عكس رغبة الناس، والاوضاع لم تعد تحتمل وقد دعمت على قدر ما استطعت، سار بري وسلم الرئيس فؤاد السنيورة بالامر الواقع فيما بارك الحريري المنشغل بهمومه الداخلية. صار ميقاتي رئيساً للحكومة وخرج مخالفاً تقليد اعلان الرئيس لبرنامجه الحكومي، فلم يغدق بالوعود واكتفى بالقول: “ما حدا يسألني ما بدي اعطي وعود وبنعرف شو هني”.
ليست شخصية ميقاتي صدامية ولا يحبذ المناكفات، ويتماشى مع الوقائع. ومنذ البداية رغب ان تكون له صفة الرئيس المنقذ وسيسير على هذا الاساس. قبل التشكيل وخلال المفاوضات تمّ التطرق الى كثير من الموضوعات المطلوب من الحكومة معالجتها، نال اكثر من ضمانة للتعاون واكثرها اهمية وعد من رئيس “التيار” بمنح الحكومة الثقة في مجلس النواب اذا التزم البيان الوزاري بما يتطابق وتطلعات “التيار”.
يقع في التحديات التي تنتظر حكومة ميقاتي الجديدة موضوع رفع الدعم وأزمة البنزين ومستقبل رياض سلامة والمفاوضات مع صندوق النقد والبطاقة التمويلية والكهرباء، ولكن قبل الحديث عن هذه التحديات لا بد من قراءة موضوعية للحكومة العتيدة. واضح ان رئيس الجمهورية ميشال عون ثبت التفسير الدستوري الطبيعي الذي تمسك به على مدى تسعة اشهر، ولم يخرج بأقل مما يثبت ان رئيس الجمهورية هو شريك كامل الاوصاف في تشكيل الحكومة، أي أن له كما الرئيس المكلف الرأي في كل اسم وفي عملية توزيع الحقائب على الطوائف وعلى القوى السياسية، كما ثبت ان حصول الرئيس المكلف على وزير مسيحي يقابله حكماً حصول رئيس الجمهورية على وزير سني، محققاً تنوعاً طائفياً في وزرائه، لم يتم الالتزام بثلاث ثمانات في الحكومة، اما الاهم فهو ما سيأتي في الاسابيع المقبلة وسيتضمنه البيان الوزاري بحيث سيكون التدقيق الجنائي بنداً اساسياً لن يتراجع عنه عون لا بالشكل ولا بالمضمون. صحيح ان عون قال في حديث للاعلاميين امس ان اولوية عمل الحكومة ستكون معالجة هموم الناس اي الطاقة والكهرباء، ولكن هو يضع في خلفية كل ذلك ان الاصلاح ليس عملية تجزئة. فلا يمكن توفير الخدمات الاساسية للناس اذا لم يتم انتزاع سوسة الفساد، أي ان سياسة عفا الله عما مضى لا تنطبق على ذلك، وهو لا يزال عند رأيه بأن الشعب من حقه ان يعرف من فجّر المرفأ ومن هدر ثروات الناس وأضاع مقدرات الدولة ورهن مستقبل الناس ويجب ان يحاسب.
ينطلق عون بالتجربة الجديدة مع ميقاتي بعقل منفتح ولكن بوضوح في ما يخص الخطوات المطلوبة على مستوى الاصلاح، العامل الايجابي هنا ان العمل الحكومي ينطلق بمناخ اقليمي جديد عبر عنه بالقول: “إن الناس تسير الى الامام ولا تراجع الى الوراء”، قاصداً بذلك العلاقة مع سوريا ليغمز من قناة الاجتماع الرباعي الاخير في الاردن لوزراء الطاقة في كل من الاردن ومصر وسوريا ولبنان، والذي كان لعون دور في ترتيبه.
ثمة متغيرات جديدة ستكون الحكومة على موعد معها وعلى ضوء هذه المتغيرات ستتم مواجهة التحديات، وضمنها يقع التدقيق الجنائي والاصلاحات الضرورية والتعافي المالي الذي تضمنته الخطة التي وضعتها حكومة الرئيس حسان دياب، وسيبني عليها ميقاتي في المرحلة المقبلة. ومن الضمانات ايضاً ان تولد البطاقة الانتخابية ولا يترك الناس على قارعة الفقر بينما يرفع الدعم. يبقى ان عون لن ينهي ولايته قبل ان يتم التأسيس للاقتصاد المنتج وتحصل المحاسبة على السياسات المالية والاقتصادية. خلال الجلسة الحكومية الاولى الاثنين المقبل سيقول عون ما يقوله في ما يتعلق بالتدقيق الجنائي وينطلق منه ليكون هو الاساس والمرتكز، وسيتحدث ميقاتي المرتاح لترؤسه للحكومة رغم تهيب الموقف، لكن الضمانات التي تلقاها واللحظة الاقليمية والدولية تبدو مساعدة وقد تسعفه في المرحلة المقبلة.