كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
صار نجيب ميقاتي في مقدّمة المشهد بلا منازع. وصار في مقدوره أن يجاهر بأنّ الرئاسة الثالثة قد استردّت كامل هيبتها، وعادت إلى موقعها الطبيعي والتقاط زمام الحكم والمبادرة.
المهمّ في ما استجد حكوميّاً، هو أنّه صار للبنان حكومة، أحبط تأليفها آمال كل من تلذّذ في الإمساك بزمام البلد على مدى أشهر التعطيل، وكلّ من مارس الإبتزاز وقال سرّاً وعلناً في مرحلة تكليف ميقاتي «إما أن نُخضعه ونجلبه إلى بيت الطّاعة أو نهشّله»، وكلّ من أراد، من باب النّكاية والكيد السياسي أن يصيب في تكليفه مقتلاً، يدفعه إلى تجرّع كأس اليأس والإعتذار المرّة.
المهمّ في ما استجد حكوميّاً، هو أنّه صار للبنان حكومة، أحبط تأليفها آمال كل من تلذّذ في الإمساك بزمام البلد على مدى أشهر التعطيل، وكلّ من مارس الإبتزاز وقال سرّاً وعلناً في مرحلة تكليف ميقاتي «إما أن نُخضعه ونجلبه إلى بيت الطّاعة أو نهشّله»، وكلّ من أراد، من باب النّكاية والكيد السياسي أن يصيب في تكليفه مقتلاً، يدفعه إلى تجرّع كأس اليأس والإعتذار المرّة.
ثمّة من شغل نفسه منذ لحظة إعلان مراسيم تأليف الحكومة، في تشريحها ومحاولة تحديد هويّتها السياسيّة، والتنقيب فيها عن ثلث أو أثلاث معطّلة ظاهرة أو مقنّعة، أو عن ثغرة ينفذ منها إلى النقّ عليها، قافزاً فوق حقيقة أنّ هذه الحكومة تكتسي أهميّة بالغة، ليس فقط لكونها مطلباً ملحّاً للمجتمعَين الدولي والعربي، أو لكونها حاجة أكثر إلحاحاً للداخل المخنوق، الذي يعتبرها فرصة خلاصه، بل لكونها جاءت بمثابة انقلاب أبيض، كسر تلك الحقبة التعطيليّة التي خنقت لبنان وشعبه على مدى 13 شهراً، وما حفلت فيه من شذوذ مريع عن القواعد الدستوريّة والصلاحيات. وفرض بالتالي على «أبطال» تلك الحقبة جميعهم، الإنكفاء إلى مواقعهم الطبيعيّة، ضمن حدود الصلاحيّات التي ينصّ عليها الدستور، يراجعون حساباتهم ويعدّون الأيّام المتبقية من عمر الولاية الرئاسيّة.
وتبعاً لذلك، صار في مقدور نجيب ميقاتي أن يجاهر أيضاً، بأنّ تلك الحقبة قد انطوت وتكسّرت وكلّ ما شابها زال أثره نهائيّاً.. وأنا رئيس مجلس الوزراء، وأنّا أبو الحكومة صاحبة القرار، أنا الذي أمثّلها وأتكلّم باسمها والمسؤول عن تنفيذ السياسة العامة التي تضعها، لا يستطيع أن ينازعني في صلاحياتي أحد، هكذا يقول الدستور.
ما من شك أنّ تأليف الحكومة الميقاتيّة الثالثة، جاء في أكثر لحظات البلد خطورة ودقّة. ويعترف نجيب ميقاتي أنّ مهمّته صعبة، إنّما ليست مستحيلة. فلديه كلّ العزّم على العمل كما قال، إلّا أنّه مدرك في الوقت نفسه، أنّ اليد الواحدة لا تصفّق. ولذلك بادر إلى أن يمدّ يده إلى الجميع، للشراكة في مهمّة الإنقاذ والإصلاح.
على أنّ السؤال الذي يحضر هنا، هل سيُسمَح لهذه الحكومة بأن تعمل وتنتج، أم أنّها ستتعرّض لكمائن وتُزرع في طريقها الألغام والمعوقات؟
قد تستنتج الإجابة عن هذا السؤال من مجموعة ملاحظات برزت جليّة في موازاة تأليف الحكومة:
– أوّلاً، وهنا الاساس، إنّ نجيب ميقاتي المؤلِّف، غير نجيب ميقاتي المكلّف. فنجيب ميقاتي الأول حُكم في تجربته الحكومية الأولى لظروف مرحلة انتقاليّة لأشهر قليلة، وضعت اللبنات الأولى لنهج اختطّه في هذا المسار.
ونجيب ميقاتي الثاني في تجربته الثانية على رأس الحكومة، عُجن في مرحلة تزاحمت فيها النكايات والالتباسات والمناكفات والتباينات، والاشتباكات والتحدّي، فكانت تلك التجربة بحدّ ذاتها مدرسة أُدركت فيها كلّ اتجاهات الرياح السياسية وطلعاتها ونزلاتها.
وأمّا نجيب ميقاتي الثالث، فلم يتمسكن ليتمكّن، بل هو دخل معركة الحكومة متكئاً على تجربتيه السابقتين، ومستفيداً منهما ليسلك مساراً جديداً في إدارة العمل الحكومي، مدركاً فيه من أين تؤكل الكتف، وكيف يجنّب كتفه وكتف حكومته، الأكل، أمام أفواه سياسية تريد ابتلاع كلّ شيء.
كما أنّه استنبط من مماحكات فترة التأليف والبازار الذي أُدخل فيه، في مرحلة تكليف مصطفى أديب وبعده في مرحلة تكليف سعد الحريري، وصولاً إلى تكليفه، قدرة على امتصاص الصدمات و»تقريص عجين» المعايير التي أُريد من خلالها الإمساك بزمام الأمر الحكومي. واستمدّ منها قوّة دفاع وتحصين للصلاحيات الدستوريّة، وخصوصاً تلك الممنوحة للرئاسة الثالثة، والالتزام بها بحذافيرها، وقوة ردع في الوقت نفسه، لأيّ تجاوز لتلك الصلاحيات ومحاولة الاستثمار على مرحلة التعطيل، وعلى ضعف رئيس حكومة مستقيل، وهزالة حكومته، وتقصيرها في أداء مهماتها، لابتكار أعراف وأنماط جديدة في الحكم، وفق «دستور المستشارين». كأن يصبح مجلس الدفاع الأعلى، إضافة الى بعض اللقاءات الوزارية برئاسة رئيس الجمهورية، بديلاً من مجلس الوزراء. ويتخذ قرارات وخطوات خلافاً للدستور والقانون. خلاصة الكلام هنا هي أنّ ما كان سائداً في مراحل التكليف، لن يتكرّر مع ميقاتي بعد التأليف.
– ثانياً، ينبغي التمعّن مليّاً في مسألة أساسيّة وجوهريّة تنطوي على دلالات شديدة الأهميّة، وهي أنّ الإطلالة الأولى والمباشرة لميقاتي كرئيس للحكومة الجديدة، كانت مع قناة الشرق الإخباريّة السعوديّة.
– ثالثاً، الظروف الدوليّة التي مهّدت إلى تشكيل الحكومة، والدخول الأميركي «الشديد اللهجة» على خط التعجيل بتأليفها، بالتوازي مع الحضور الفرنسي، عكست الإرادة الدولية بمنع سقوط لبنان والحدّ من انهياره وإعادة وضعه على سكة الانتظام السياسي، والخروج من أزمته وفق خريطة الطريق المرسومة دوليّاً، التي تبدأ وتنتهي عند اجراء اصلاحات تراعي تطلّعات وآمال الشعب اللبناني.
– رابعاً، حكومة ميقاتي، تُعدّ من أكثر الحكومات اللبنانيّة التي تحظى بهذا القدر الواسع من التأييد والتغطية والحصانة الواضحة والصريحة من المجتمعين الدولي والعربي، والدلالة البالغة تتجلّى في موقف الولايات المتحدة الاميركيّة وفرنسا ومعهما سائر دول الشرق والغرب. ولا تنحصر حدود هذا الدّعم الدولي الواسع بتغطية تشكيل هيكل حكومي فقط وكان الله يحب المحسنين، بل هي قوّة دفع كبيرة لتشكيلها طبعاً، ولإنجاحها في مهمّتها في آن معاً.
– خامساً، هذه الحكومة هي الأولى المحاطة بحاضنة شعبية لها، تتفهّم مهمّتها الصعبة، وتعوّل عليها لوقف المسار الإنهياري المريع للبلد، ومسلسل الإذلال اليومي للبنانيين في كل مفاصل حياتهم.
– سادساً، لا يستطيع أيّ طرف أن يتّهم الحكومة بأنّها حكومة «حزب الله»، بدليل مروحة المواقف الدولية التي محضّتها الدعم الكامل، وفي صدارتها الموقف الأميركي، الذي لو كانت هذه الحكومة حكومة «حزب الله»، فهل كان لهذا الدعم الدولي أن يُعلن بهذا الشكل الواسع؟
ليس خافياً أبداً انّ تشكيل الحكومة أحدث صدمة كبرى لدى من راهن على تيئيس نجيب ميقاتي، والصدمة الأكبر لهؤلاء تجلّت في هذه الحاضنة الدولية والعربية الواسعة لها.
قد يكابر البعض ويعمد الى التشويش، والتشاطر، وافتعال تعقيدات، وعرض عضلات وادّعاء بطولات سعياً لتحقيق مكتسبات، ولكن مع هذه الحاضنة، تبدو أيّ محاولة لإعاقة عمل الحكومة محكومة بالفشل مسبقاً. ذلك أنّ الحكومة تحت المجهر الدولي، وتحت مجهر الشعب اللبناني، ومطلوب منها أن تعمل وتنتج. ولا شك أنّ مهمّتها صعبة، ونجيب ميقاتي قال انّه يدرك أنّ مهمته صعبة، ولكنه قرّر أن يخوض الصّعب، مرتكزاً إلى النأي بالنفس عن القضايا الخلافية الشائكة والمعقّدة، وإلى حسن دراية في مقاربة الاولويات والأساسيات، وصولاً إلى تحقيق نقلة نوعيّة في الواقع اللبناني، تطفئ نار الأزمة، وتصحّح الإختلال الحاصل في الميزان الداخلي.
ثمة من «يتغنّج» ويقول إنّه قد يمنح الثقة للحكومة وقد لا يمنحها. إلّا أنّ هذا الغنج يفقد صلاحيّته مع الوقائع الجديدة التي بدأت من لحظة اعلان مراسيم تشكيل الحكومة. فمركب الحكومة انطلق، والمتغنّجون لا يستطيعون أن يبحروا في مسار معاكس له، وفي النهاية هم ملزمون بالإبحار في مركبٍ رئيسهم شريك فيه، والفرضية المنطقية في هذا السياق هي انّهم سيمنحون الثقة للحكومة بالتأكيد.. إلّا إذا كانت ثمّة قطبة مخفيّة بينهم وبين رئيسهم.. ففي هذه الحالة ينبغي ما قد يترتب عليها من تداعيات والتباسات في الآتي من الايام.