Site icon IMLebanon

14 أيلول… بشير القوي… حلمًا مستعادًا…

جاء في المركزية:

الثلثاء 14 أيلول 1982، قرابة الرابعة عصرًا. انفجار قوي يهز بيت الكتائب في الأشرفية حيث يعقد اجتماع يضم رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل في حضور عدد من كوادر حزب الكتائب. بنتيجة هذا الاعتداء الضخم، حقق كثير من المتآمرين على لبنان، ومن أمعنوا طويلا في حرمانه من حقه وحق أبنائه في حياة كريمة بعد حمام دم طويل ومضني غرق فيه الأقربون والأبعدون من هواة تصفية الحسابات الاقليمية والدولية على أرض هذا الوطن، هدفهم: اغتيال الرئيس الجديد بشير الجميل و23 من رفاقه، في جريمة اهتز على وقعها الوجدان والكيان اللبنانيان.

الجريمة، في حجمها وضخامتها وتوقيتها والرسائل المشفرة والواضحة من ورائها، أكبر من أن يجرفها بحر النسيان، مهما اعتد كثيرون بأننا نعيش في بلاد اعتادت تقليب صفحات الزمن والذاكرة المطبوعة بالغيابات المفجعة. ذلك أن الهدف لم يكن فقط الاجهاز على شخص الرئيس المنتخب، ذي الخلفية الكتائبية المسيحية الواضحة، التي لا تحتاج تفسيرا. بل إن الهدف الحقيقي وراء هذا الاجرام الموصوف كان بالتأكيد كامنا في الاجهاز على حلم رافق اللبنانيين منذ أن انتفى وجود الدولة في وطنهم، الذي لم يجد البعض ضيرا في تحويله مسرحا لأعتى فصول الصراع العربي – الاسرائيلي. كان الحلم بسيطا: العثور على شخص يستطيع تحويل كابوس الاقتتال المقيت إلى واحة أمل، لا بقوة السلاح- وإن كانت له الكلمة الفصل في الميدان في ذلك الزمن- بل بقوة الحكمة والانفتاح على الآخرين، وفرض هيبة الدولة على المتناحرين ومتناتشي النفوذ…

في هذا الجو السياسي وفضائه الملبد بالحسابات الميدانية المحلية، وتلك ذات الطابع الاقليمي، سطع نجم بشير الجميل، الذي اقتنص ببراعة مشهودة الفرصة التي قدمتها له الأرض اللاهبة: عرف الرجل كيف يتحول بسلاسة وبسالة من القائد العسكري الذي يتقن استخدام السلاح إلى الرئيس القوي، الذي يعرف كيف يستقطب الخصوم والجمهور العريض التواق إلى “بطل” من طينة بشير يقود “الجمهورية القوية” التي كانت المنطقة الشرقية ذات الغالبية المسيحية الساحقة تعد النموذج الأفضل عنها، وهي الحلم الذي راود بشير طويلا. لكن قدره الأسود- وهو بالتأكيد أيضا قدر لبنان الأشد سوادا- حرمه فرصة تحقيقه…

لكن الأهم يكمن في أن بين محطتي انتخاب بشير واغتياله محطات كبيرة وكثيرة مطبوعة بما يصح وصفه بـ “القوة الهادئة” التي جسدها بشير في… شخصه. ذلك أن أهالي منطقة الأشرفية، معقل بشير الأبرز- يروون أن في خلال ولايته القصيرة، كان الأمن في المنطقة مستتبا إلى حد أن سكان الأشرفية كانوا يتركون سياراتهم مفتوحة ليلا، وهم على يقين بأن أحدا لن يتجرأ على الاقتراب منها… لا لشيء إلا لأن شخصا قويا بات في سدة الرئاسة الأولى. كذلك، لا حاجة إلى ترداد الروايات الشهيرة عن أن مجرد الاعلان عن انتخاب بشير رئيسا دفع جميع موظفي القطاع العام إلى الانضباط والحضور إلى مراكز عملهم “متل الشاطرين” وقبل بدء الدوام الرسمي في بعض الأحيان.

أما في السياسة، فاستعادة محطات بشير طويلة… وطويلة جدا. لكن أهم ما فيها يكمن في القدرة الفائقة على القفز فوق الانتماءات التقليدية لمد اليد إلى الآخر المختلف، في زمن جهد البعض فيه لتكريس بناء المتاريس الطائفية بين الناس. إلا أن الرئيس الجديد أيقن باكرا صحة المعادلة التي تفيد بأن لبنان لا يحيا إلا بجناحيه المسيجي والمسلم، فمد اليد إلى الزعيم السني البيروتي صائب سلام، وفتح صفحة وردية مع الرئيس الراحل الياس سركيس، رجل الدولة والمؤسسات الاستثنائي. غير أن بشير القريب من الناس حد الالتصاق بهم ومشاركتهم ألم استشهاد فلذات الأكباد، حيث تدفع الطفولة البريئة ثمن حرب الكبار القاسية غير المبررة في كثير من الأحيان، رفض العمل بنصيحة الرئيس السلف بالتركيز على البقاء في القصر الجمهوري حتى إنطلاق عهده رسميا.

فالهم كان في مكان آخر… في إعداد العدة لانطلاقة سليمة للعهد تجعله مخلّدا في الذاكرة اللبنانية. وهذا ما حصل فعلا، بدليل أن يوم 14 أيلول لا يمر على الرزنامة من دون التوقف عند بشير… الرئيس الذي انفتح على سائر أفرقاء الساحة المسيحية للحفاظ على تنوّعها. وفي هذا المضمار أيضا، رواية يحلو لأبناء جبيل أن يستعيدوها عند الحديث عن بشير. وتقول الحكاية إن غداء جمع الرئيس المنتخب بعدد من الجبيليين قبل أيام من اغتياله المفجع. وفي كلمة مرتجلة كالعادة، أطلق بشير صاحب الحضور اللافت والابتسامة الآخاذة الاشارات الايجابية في اتجاه عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، رجل الدولة والمبادئ وبطل المعارضة البنّاءة… المعارض لفكرة الميليشيات المسلّحة من حيث المبدأ، فتحدث عن كون “العميد رجل دولة وقانون من الطراز الأول، وهو بذلك رمى بوضوح إلى إنهاء الخصومة السياسية مع المعارض الشرس الذي كانه “العميد”… باختصار، ألهب الخطاب الأكف تصفيقا في عرين الكتلة الوطنية الأول..

هذا غيض من فيض قوة بشير الجميل، التي يبدو من الواجب استعادتها في يوم الثلثاء 14 أيلول 2021. ذلك أن فيها كثيرا من العبر الواجب استخلاصها من جانب الباحثين اللاهثين وراء القوة القائمة على الشعارات الكبرى والسعي إلى تحصيل المكاسب على حساب وطن ربما لم يدر بشير أن الاستشهاد فيه لن يؤت ثماره، حتى اللحظة على الاقل… لكن العزاء في أن الله لا يترك مؤمنيه وحيدين على درب الجلجلة الطويلة… فاستشهاد البطل الرمز في يوم عيد الصليب رسالة واضحة: لا يمر غياب الأبطال عابرا… بل إنه المعبر إلى القيامة، الآتية حتما… وإن طال الانتظار…