كتب حسين طليس في “الحرة”:
يطلق اللبنانيون على شهر أيلول مسمى شهر “الميم”، وذلك نظرا لما يحمله لهم من استحقاقات سنوية يبدأ اسم معظمها بحرف الميم، أبرز ما فيها استعدادات المجتمع للفصل الشتوي ولوازمه، حيث اعتاد اللبنانيون في أيلول على تأمين محروقات الشتاء للتدفئة، مدارس الأولاد ولوازمها، أما أبرز ما يحمله الشهر، تحضير مونة العام المقبل من مكدوس ومكابيس ومربيات ومعمول.
ينهي كبار السن روايتهم لقصة تسمية “شهر الميم” بإشارة إلى الحاجة الأكبر في هذا الشهر، يسألون “وماذا يتطلب كل ذلك بحرف الميم؟” الإجابة التي دائما ما يعجز الصغار عن معرفتها تكون “المال”، يجمعه اللبنانيون طيلة العام لتلبية متطلبات هذا الشهر.
إلا أن لبنان يعيش عاما ثانيا من الأزمة الاقتصادية الأكبر في تاريخه وتاريخ العالم وفق البنك الدولي، شهد هذا العام استفحال الأزمة مع بلوغ ذروة الانهيار المالي للعملة الوطنية التي تصرف فيها رواتب معظم اللبنانيين، وبات أكثر من 80% من اللبنانيين يعانون فقرا متعدد الأوجه، وفق ما أكدت منظمة “الإسكوا” في أحدث تقاريرها، بعد هوة كبيرة بين المداخيل وأسعار السلع والحاجات الأساسية التي تلحق بسعر صرف الدولار، بعدما بلغ حدود الـ 20 ألف ليرة صعودا متدرجا من 1500 ليرة قبل عامين.
يغيب عنصر المال، ويصبح توفره شرطا أساسيا لتأمين كل ما سبق ذكره من حاجات الشتاء، وبعد الفوضى الكبيرة التي تعرقل انطلاق العام الدراسي في لبنان، والصعوبات الجمة في تأمين اللبنانيين للوازم التدفئة في ظل أزمة انقطاع المحروقات والارتفاع الجنوني في تكلفة التدفئة، يبدو أن الانهيار سيطيح بالميم الثالثة للشهر، المونة التي لطالما اعتبرت ملجأ الفقراء وضمانة توفر قوتهم شتاءً، وشكلت على مدى أجيال متلاحقة هوية ثقافية وشعبية تدور حولها عادات وتقاليد جرى المحافظة عليها، هي مهددة اليوم بالاندثار ومعها الأمن الغذائي لآلاف العائلات اللبنانية التي تتكل عليها كزوادة للفصل البارد.
تختلف عملية التموين بين منطقة وأخرى في لبنان، حسب ما تفرضه الطبيعة الجغرافية والزراعية للمناطق، وتختلف معها أنواع المونة والأطعمة، الجامع الوحيد بينها، عجز اللبنانيين لهذا الموسم عن تأمينها.
الأوفر على حساب الصحة
تملك أم سلمان محلا لبيع لوازم المونة ومكوناتها الأساسية، تؤكد في حديثها لموقع “الحرة” أن معظم أبناء بلدتها البقاعية يواجهون صعوبات في تأمين حاجاتهم من المونة السنوية، “الموظف أو العسكري الذي يتقاضى مليون ونصف المليون أو مليوني ليرة، باتوا يساوون فاتورة شهرية واحدة لاشتراك مولد الكهرباء الخاص، أو 4 صفائح بنزين، من أين سيأتون بالمال للتموين؟ ما يحصل اليوم هو (خربان بيوت) بالجملة، الناس تعيش يوما بيوم لا أكثر ولا أحد يفكر بالغد”.
“الواقع سيء للغاية، لا فقراء ولا أغنياء بات بإمكانهم اليوم تحمل تكاليف التموين التي تضاعفت نحو 10 مرات عما كانت عليه”، بحسب أم سلمان التي باتت تلاحظ من خلال عملها حجم الأزمة ومدى تأثيرها على المواطنين.
وتضيف “الناس اليوم يبحثون بمعظمهم عن الأوفر والأرخص، لم يعودوا يهتمون بالنوعية أو العلامة التجارية، كل ما يهمهم هو الحصول على السلعة المطلوبة بأقل ما يمكن من تكاليف، يبحثون عن أرخص زيت وأرخص ألبان وأجبان ليطعموها لأولادهم”.
بعض الناس بحسب أم سلمان باتوا “يجولون على المحال يبحثون عن المواد الغذائية التي شارف تاريخ صلاحيتها على الانتهاء، ليشتروها بأسعار أقل من المتوفر في الأسواق، حتى أن أحدهم سألني قبل أيام ماذا نفعل بالمواد الغذائية التي تنتهي صلاحيتها لأنه مستعد لشرائها طالما أن انتهاء صلاحيتها لم يتجاوز الـ 3 أشهر، الناس تريد أن تأكل ولا تأخذ بعين الاعتبار أي محاذير صحية، ومن هذا المثال يمكن فهم الواقع الذي يعيشه المجتمع”.
الدين ممنوع
واحدة من أبرز معوقات التموين أيضا تتمثل في وقف عملية الشراء بالدين في معظم المناطق اللبنانية. محمد يعمل في مجال البناء، فوجئ هذا العام بأن الدكان التي كان يتعامل معها أوقفت الدين، في حين أن عمله الموسمي كان يفرض عليه الاستدانة طيلة العام وتسديد الديون في الموسم.
“هذا العام لم نتمكن من ذلك، فلا الموسم كان ناشطا ولا عمل آخر متوفر، عجزنا عن التموين لأول مرة في حياتي، قد أشتري فيما بعد بعض المونة الجاهزة إذا ما تيسرت الأحوال، ولكن إلى الآن لا إمكانية مع إيقاف الدين”، يقول محمد.
أم سلمان بدورها أوقفت الدين في دكانها، “اليوم كل الناس تعمل وفق قدرتها، وأعلم حجم الاعتماد على الشراء بالدين من قبل الموظفين وأصحاب الأعمال الموسمية، ولكن لا يمكنني اليوم أن أسجل دينا بقيمة 100 ألف وأشتري البضاعة نفسها غدا بـ 150 ألفا، تصبح الخسارة على عاتقي أنا، كان الدين قائما حينما كانت أسعار السلع ثابتة، أما اليوم فيعتبر مستحيلا”.
كل شيء تغير، يقول محمد، “في هذه الأيام حتى الناس تغيروا ولا ألوم أحد على ذلك، فالأزمة التي نعيشها فرضت هذه التغييرات، وبات كل فرد يفكر بطريقة (اللهم نفسي)، حيث لم يعد هناك مكان للبركة والطيبة والألفة في التعاون والتعامل بين الناس، كان موسم المونة فيما مضى عرسا يتبادل فيه الناس مونتهم ويوزعون الفائض عن حاجتهم للمحتاجين، اليوم تحول الموسم إلى مأتم الكل يبكي فيه ويشتكي منه”.
من الكشك إلى فضلاته
يعتبر (الكشك) من مميزات المونة اللبنانية، ونجمها الذي ينفرد لبنان فيه، ولا سيما في البقاع والشمال، حيث تقوم النساء بإعداده كجزء من المونة، ويتم تحضيره عبر مزج البرغل باللبن وعجنه ثم تجفيفه وطحنه ليصبح مسحوقا قابلا للتذويب بالزيت والمياه، للاستخدام في الطبخ، وفي (المناقيش) اللبنانية.
كان يسمى الكشك قوت الفقراء في الشتاء ومصدر طاقتهم لمواجهة البرد، نظرا لما فيه من قيمة غذائية عالية، أما اليوم فقد بات من الأطعمة صعبة المنال والإعداد نظرا لما بات يرتبه من تكاليف باهظة، بعدما تضاعفت نحو 10 مرات عما كانت عليه في الأعوام الماضية.
تروي نعمت التي تملك مطحنة كشك، كيف انخفض الإقبال على مطحنتها بشكل كبير هذا العام، “الفقراء وذوي الدخل المحدود لم نراهم هذا الموسم، واقتصر النشاط على ميسوري الحال المعروفون في المنطقة، حتى هؤلاء قللوا من الكميات التي اعتادوا سنويا أن يعدوها، والعائلة التي كانت تحتاج 10 كلغ من الكشك تكتفي اليوم بـ5، وهكذا”.
تضيف نعمت، “تحول عملي من مشاركة الناس فرحة هذا الموسم في إعدادهم لمونتهم إلى عمل يوجع القلب حيث بت مضطرة للاستماع إلى شكاوى من الأسعار والغلاء وقرب الشتاء والتكاليف، أستمع إلى قصص مبكية وأشهد على مواقف مفزعة”.
كانت الناس تنتظر نهاية أيلول وانخفاض درجات الحرارة من أجل إعداد الكشك، الذي قد يفسد في درجات الحرارة المرتفعة، بحسب نعمت، إلا أن الموسم هذا العام انطلق مبكرا “حيث يسعى الناس لشراء ما أمكنهم قبل ارتفاع جديد في الأسعار، غير آبهين بموعد الموسم أو نوعية الكشك”.
وتابعت “اعتادت الناس على أن تتبارى وتتفاخر بجودة الكشك واللبن المستخدم فيه والمواد الأولية من الباب الأول، اليوم بات التحدي في القدرة على إعداد الكشك أصلا، ولم يعد أحد يستخدم لبن الماعز والغنم، وحتى أسعار لبن البقر بات مرتفعا للغاية إلى حد أنني شهدت إعداد إحدى العائلات للكشك بالحليب المجفف الذي وصلهم كمساعدة غذائية (إعاشة) ومنه يعدون لبنا للكشك، وهذا ما لم أشهده طيلة حياتي”.
أما أصعب المواقف التي شهدتها نعمت، فكانت سعي إحدى العائلات للتوسط معها من أجل الحصول على “الخشانة”، وهي القشور التي تنتج عن عملية طحن الكشك، وعادة ما ترمى ولا يتم الاهتمام بها، أما اليوم بات الناس يتوسطون للحصول عليها ولا يخجلون من المطالبة بالبقايا بعد الطحن لكونها تستخدم في المناقيش ويزيدون عبرها كمية الكشك بعد جبله”.
وباتت تكلفة إعداد الكشك باهظة نسبة إلى ما كانت عليه في الأعوام الماضية، فبينما كان سعر الكيلوغرام جاهزا نحو 50 ألف ليرة، بات يكلف اليوم نحو 200 ألف ليرة، فبحسب نعمت ارتفعت أسعار كل المواد الأولية، “اللبن كان سعره 6 آلاف ليرة، العام الماضي وصل إلى 18 ألف ليرة، ليصبح اليوم 60 ألفا، كذلك البرغل الذي قفز من 1500 ليرة للكيلوغرام إلى 14 ألفا.
كذلك ارتفع بدل الأتعاب الذي تتقاضاه نعمت من 5000 ليرة أجرة إلى 10 آلاف، حيث تقول “حاولت بداية الموسم أن أحافظ على أسعاري كما كانت، لكوني أملك المطحنة والمحل وليس لدي إلا أجرة الكهرباء وأتعابي، إلا أن فاتورة الكهرباء وصلتني مطلع الشهر بقيمة مليوني ليرة، وكانت النتيجة خسارة بخسارة، ما وضعني بين خيارين، إما رفع التكلفة، أو إغلاق المصلحة (العمل)”.
“المكدوس” للمغتربين فقط
تجزم الحاجة رحاب التي تعمل في إعداد المونة للمنازل أنها لم تتلق أي طلبية من أبناء البلدة المقيمين فيها، “معظم ما وصلني من طلبيات كانت لمغتربين يريدون أخذ بعض المونة في سفرهم، لا سيما المكدوس الذي بات إعداده يرتب تكاليف مرتفعة جدا بحسابات الرواتب بالليرة”.
وتضيف رحاب “كان الله في عون الناس، كان يتراوح سعر مرطبان (جرة صغيرة) المكدوس ما بين 20 و30 ألف ليرة، العام الماضي بلغ سعره 100 ألف ليرة، ليقفز اليوم إلى 400 ألف ليرة، فكل المواد الأولية ارتفع سعرها ولاسيما الجوز، فبعدما كان يباع الكيلوغرام ما بين 12 ألفا و20 ألفا، حسب النوع، بات اليوم بـ 150 ألف ليرة، فيما ارتفع سعر الباذنجان من 1500 ليرة للكلغ إلى 6000 ليرة، فيما الزيت حدث ولا حرج إذ لا يقل سعر الـ 4 ليتر منه عن الـ 150 ألفا وهذا زيت نباتي وليس زيت زيتون”.
تنقل رحاب حادثة شهدتها مع إحدى العائلات الفقيرة، بعدما تبرعت لهم بـ 25 كلغ من الباذنجان، “لم يستطيعوا تأمين كلغ واحد من الجوز، قاموا بشراء نصف كلغ من الفستق السوداني واستخدموه بديلا عن الجوز، ولتوفير الزيت قاموا بكبس الباذنجان بمراطبين (جرار) الضغط التي تعزلهم عن الهواء، على أن يقوموا بإضافة الزيت عند الأكل”.
الغلاء نفسه ينطبق على كافة أنواع المونة التي تقوم على الخضار، كالكبيس (المخلل) حيث ارتفع سعر الخيار من 1500 ليرة إلى 15 ألفا، و”رب البندورة” (معجون الطماطم) الذي ارتفع سعر الكيلو منه من 500 ليرة إلى 5000، تقول رحاب “لم نكن نحتسب كلفة الملح مثلا أو كلفة المياه وتسخينها أو كلفة عصر البندورة ونقلها، كل ذلك بتنا مجبرين على احتسابه بسبب ارتفاع الأسعار، فمن دون ذلك يكون عملنا سخرة للناس بلا أرباح”.
أما بالنسبة إلى مونة الحبوب والخضار المثلج تروي نعمت كيف خسرت الناس مونتها بسبب انقطاع الكهرباء، حيث اضطروا إلى إخراجها من البرادات واستخدامها قبل أن تفسد، في حين حصل هذا السيناريو الكارثي مع عدد كبير من الأسر التي خسرت مونتها بسبب أزمة انقطاع الكهرباء، وباتوا اليوم على مشارف الشتاء مجبرين على الشراء من السوق بالأسعار المرتفعة”.
المربيات منقطعة
وشكل ارتفاع أسعار السكر والفاكهة مانعا أمام اللبنانيين من إعداد المربيات، حيث وصل سعر كيلوغرام السكر إلى 12 ألف ليرة، في حين أن أسعار التين والمشمش كانت باهظة هذا العام نسبة إلى الأعوام الماضية.
تؤكد رحاب أن سوق المربيات باتت أشبه بالسوق السوداء، خاصة مع انقضاء موسم الفاكهة التي عادة ما تستخدم في صناعة المربى كالمشمش وارتفاع أسعارها في الأسواق. شراب التوت المركز كان يبلغ سعر العبوة منه 20 ألف ليرة، باتت تكلفتها اليوم 80 ألف ليرة.
التين المجفف بات سعره نحو 50 ألف ليرة، فيما سعر مربى المشمش يناهز الـ 100 ألف ليرة للمرطبان الكبير، بعدما بات أشبه بسلعة منقطعة في الأسواق، وذلك بسبب الضرر الذي لحق بموسم المشمش هذا العام ولا سيما شمال لبنان، الذي شهد وصول أفواج من الجراد في موسم المشمش ما أدى إلى انخفاض الكميات في الأسواق وارتفاع ثمنها، حيث بلغ سعر الكيلو الواحد 20 ألف ليرة.
تختم رحاب واصفة الغلاء الحالي بالـ “مميت” مؤكدة أن وصفها “لا يحمل مبالغة بالنظر إلى أحوال الناس الذين سيكونون مضطرين للتزود بحاجاتهم الغذائية من الأسواق وبأسعار خيالية تتجاوز حتما قدراتهم المادية، وهو ما سينعكس بتأثيره على نوعية غذاء الناس وكمياته وأمنهم الغذائي بشكل عام”.